السنة (النبوية)، حقيقة قرآنية، في عصر (النبوة)
(قبل ظهور الفرق والمذاهب المختلفة)
«إن الدارس لكتاب الله تعالى، يعلم علم اليقين، أن الذي بلّـغ نصوص آياته، هـو رسول الله محمد، ومن خلال تدبر هذه الآيات، يرى الإنسان رسول الله، وهو يقـيم كل آية من آيات هذا الكتاب، سلوكـا عمليا في واقع حياتـه، الخاصة والعامة. وإذا كانت «السنة» هي الطريقـة المطـردة، التي لا تتخلف، كما أجمعت على ذلك معاجم اللغة (مادة سنن)، فيجب أن تكون النصوص التي تستقى منها، أيضا حقا لا تتخلف».
بهذه الفقرة، بدأت مقدمة الجزء الأول من موسوعة «السنة النبوية حقيقة قرآنية – قبل ظهور الفرق والمذاهب المختلفة»، (٢٠٠٥م)، تقديم الأستاذ/ الدكتور عبد الصبور شاهين، حيث قال في مقدمته:
«إن الجهد الذي بذله الدكتور محمد مشتهري في تأليف هذا الكتاب، طبقا لفكرته عن «تفعيل النص القرآني»، لم يسبق أن بذل مثله مؤلف صاحب فكرة بناءة كهذه الفكرة، وإنه ليستحق أن يهنأ بما حالفه من توفيق الله وعونه».
وسأهتم في هذا المقال، بتحرير مصطلح «السنة»، من كل لبس أصابه، أو انحراف عن معناه القرآني واللساني.
إن (السنة)، طريقة أداء ثابتة، لا تتخلف، وسلوك وتصرفات عملية، تحدث في واقع الحياة…، وليست نصا يُتلى على الناس، ويُدوّن في الكتب!!
* فإذا أضيفت كلمة (السنة) إلى الله تعالى، فإنها تعني القوانين الثابتة التي قامت عليها فاعلية الرسالات الإلهية، وفاعلية أسماء الله الحسنى في هذا الوجود، يقول الله تعالى:
– «مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ (سُنَّةَ اللَّهِ) فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ»
– «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ (سُنَنَ) الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
إن الله تعالى هو الذي يُبيّن للناس شريعتهم: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)، وهو الذي يهديهم إلي سنن الأولين: «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ»، ويستحيل أن يخترق (بيان الله) الباطل، ويتحول إلى (مرويات) مذهبية، تخضع لتصحيحات البشر وتضعيفاتهم!!
* وإذا أضيفت كلمة (السنة) إلى (الرسول)، فإنها تعني البلاغ الدائم الثابت لـ (رسالته)، الذي يستحيل أن يخترقه الباطل، ويتحول إلى روايات مذهبية، لأن (الرسول) وهو في مقام البلاغ عن الله، يكون في مقام (العصمة)، فالله تعالى يقول:
«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ (رِسَالَتَهُ)، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».
إن (الرسالة) التي أمر الله (رسوله) أن يبلغها للناس، وأمر الناس اتباعها، محفوظة بحفظ الله لها، وهذه (سنة الله) مع رسله، أن يعصمهم من الناس، يقول الله تعالى:
«وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا» – «(سُنَّةَ) مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن (رُّسُلِنَا) ۖ وَلَا تَجِدُ (لِسُنَّتِنَا) تَحْوِيلًا».
إن (سنة الرسل)، لا تتبدل، ولا تتحول، عن (سنة الله): «وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا»!!
فهل يمكن أن تتحول (سنة الله) مع رسله، وبلاغ (الرسل) عن الله، إلى بلاغ المحدثين عن الرواة؟!
* أما إذا أضفنا كلمة (السنة) إلى (النبي)، فإنها تعني فاعلية (النبوة)، أي (الوحي)، مع أحداث ومواقف (عصرالتنزيل واكتمال الدين)، هذه الفاعلية المرتبطة ارتباطا وثيقا ببشرية (النبي)، هذا المقام الذي يخضع فيه (النبي) للعتاب، والتوجيه، والتصحيح…، فتدبر:
– «مَّا كَانَ عَلَى (النَّبِيِّ) مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، (سُنَّةَ اللَّهِ) فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا».
«وَمَا كَانَ (لِنَبِيٍّ) أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
مَا كَانَ )لِنَبِيٍّ( أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ»
يَا أَيُّهَا (النَّبِيُّ) لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ»
ومن تشريعات (النبوة)، الخاصة بأحداث ومواقف عصرالتنزيل، إباحة الجمع بين الأختين، في نكاح واحد، قبل نزول آية التحريم: «وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»!!
إن ما شاء الله أن يعلمه الناس، من تشريعات ومواقف وأحداث عصر (النبوة)، نزل به قرآن، كان هو المرجعية التي يستقي منها (النبي) سنته المصاحبة له دوما، سلوكا عمليا على أرض الواقع!!
إنه لمن الجهل، والعبث بدين الله تعالى، أن تُوظف الآيات القرآنية، التي أمرت بطاعة الرسول، واتباعه، والاقتداء به، والتحاكم إليه…، لإثبات حجية (مرويات) الفرق المختلفة، وإعطاء شرعية لها، كمصدر ثان للتشريع، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
فهل يعقل، أن يتساوى من عاصروا الرسول، وسمعوا منه مباشرة، مع من جاؤوا من بعده، وقال لهم الناس، إن الرسول قال؟!
وهل يعقل، أن يتساوى من وجد في نفسه حرجا من حكم الرسول، بعد أن سمعه منه مباشرة، مع من وجد في نفسه حرجا من اجتهادات أئمة السلف، فقهاء ومحدثين ومفسرين؟!
إن غياب المنهجية العلمية في التفكير، جعل أنصار (الفُرقة والمذهبية)، يحرّفون مفهوم (السنة النبوية) عن معناه القرآني واللساني، ليصبح كل ما صدر عن (النبي) من قول أو فعل أو تقرير…، حسب اجتهادات أئمة الجرح والتعديل، (العقدية والتشريعية)، فهم الذين يُقرّرون، ما هو سُنة، وما ليس بسنة، مما نسبه الرواة إلى (النبي)!!
إننا لو بحثنا في القرآن كله، عن آية واحدة، تأمر الناس، باتباع كتاب تشريعي مستقل عن كتاب الله، يرثه المسلمون بعد وفاة (النبي)، باسم (السنة النبوية)، أو باسم (الحديث النبوي)، فلن نجد، وسنجد آيات كثيرة، تثبت أن المسلمين لا يرثون إلا كتاب الله وحده، ومنها قوله تعالى:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ (الْكِتَابِ) هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» – «ثُمَّ أَوْرَثْنَا (الْكِتَابَ) الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا…»
إن الله تعالى يقول: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ»، وأنصار ودعاة (الفُرقة والمذهبية) يقولون: «ثم أورثنا الكتاب والسنة»، فإذا لم يكن ذلك تقوّلا على الله ورسوله بغير علم، فماذا يكون؟!
إنه لمن الخطر الكبير على ملة (الوحدانية)، وعلى قدسية (النبوة)، وعلى حكمة (الشريعة)، وعلى أمن البلاد والعباد…، أن يتبع المسلمون مصادر تشريعية، لم يحفظها الله تعالى، ولم يشهد رسول الله تدوينها، ولا الخلفاء الراشدون من بعده، ويعتبرها أئمة السلف، من ثوابت الدين التي يحرم المساس بها، ويكفر من ينكرها، فكانت خير سند للجماعات الجهادية، التي تسعى في الأرض فسادا، وتسفك الدماء بغير حق، تحت راية التمسك بـ (الكتاب والسنة)!!
لقد شاهدت حفل تكريم للمتفوقين في حفظ القرآن، تقيمه بعض مدارس اللغات سنويا، وتُعرض فيه مسرحيات، أبطالها من تلاميذ هذه المدارس، ومعظم هذه المسرحيات، تقوم على تدعيم وترسيخ مفهوم (الفُرقة والمذهبية)، في قلوب التلاميذ وأولياء الأمور، بسبب توجهات أصحاب هذه المدارس، الدينية السلفية!!
آخر هذه المسرحيات، مسرحية تعكس ما حدث مؤخرا، من هجوم المؤسسات الدينية علي حرية الفكر الديني، وقولهم إن هذه الحرية مشروطة بعدم المساس بأئمة السلف، لأن ذلك يُعد مساسا بثوابت الدين، وبما هو معلوم من الدين بالضرورة…، فيقوم فريق من التلاميذ بتمثيل دور أئمة السلف، وفريق آخر يقوم بتمثل دور المفكرين، وتنتهي المسرحية بالاستهزاء بالمفكرين، والحكم عليهم بدخول مستشفى (المجانين)، وسط تصفيق حار من أولياء الأمور!!
فهل يعلم هؤلاء التلاميذ، وأولياء الأمور، وأصحاب ومديروا هذه المدارس، أن هذا (القرآن) الذي يحتفلون بتكريم المتفوقين في حفظه، بريء من هذا التراث الديني، ومن هذه المفاهيم التخاصمية التكفيرية، وأن ثوابت الدين التي يدّعونها، ثوابت مذهبية، وتاريخ المذاهب (العقدية)، التي دمرت خير أمة أخرجت للناس، خير شاهد على ذلك، ولكن لقوم (يعقلون)، لقوم (يعلمون)!!
طبعا، سيخرج علينا أنصار (الفُرقة والمذهبية)، رافعين سلاح (إنكار السنة)، مستندين إلى شبهة واهية تقول: إن مرويات (السنة)، هي التي جاءت بتفصيلات الصلاة، فإذا أسقطناها، أسقطنا ركنا رئيسا من أركان الإسلام، وهي شبهة واهية، سيأتي الرد عليها في المقال القادم.
إن (السنة النبوية)، ليست تراثا روائيا مذهبيا، تتخذه كل فرقة لتدعيم توجهاتها (العقدية والتشريعية) المختلفة، وإنما هي (حقيقة قرآنية)، قامت على تفعيل (الرسول) للنص القرآني، في «عصر التنزيل»، وتفعيل كافة المسلمين لذات النص القرآني، على مر العصور، وفق إمكاناتهم العلمية والمعرفية.
«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ (الْقُرْآنَ) ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ (غَيْرِ اللَّهِ) لَوَجَدُوا فِيهِ (اخْتِلَافًا كَثِيرًا)»!!
معلومات:
* مقام (العصمة): مقام حفظ ووقاية، يضمن تبليغ رسالة الله للناس، دون المساس بها، أو بالرسول، وكما حفظ الله الرسول، حفظ رسالته، القرآن الكريم، فهل حفظ الله كتابا تشريعيا غير القران؟!
* إنكار (السنة): مصطلح هلامي، لا تستطيع أن تمسك به، يرفعه أتباع كل فرقة، في وجه المخالف لها، إذا أنكر (حديثا) من أحاديثهم، التي نسبوها إلى رسول الله، أو أساء إلى سيرة صحابي، من الذين شهدوا لهم بالعدالة!!