نحو إسلام الرسول

(332) 9/5/2015 (سنة الإيمان الوراثي، وسنة الإيمان العلمي)

إن المنهجية العلمية، في الدراسة والبحث والتحقيق، تقوم على طلب (البرهان) المثبت للحقائق التي يريد الباحث التوصل إليها، «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»!!

فأين البرهان الدال على أن مفهوم (السنة النبوية)، مفهوم (مذهبي)، يعني: كل ماصدر عن النبي، من قول أو فعل أو تقرير…، حسب اجتهادات أئمة الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف؟!

إن غياب المنهجية العلمية عن الفكر الإسلامي، كلف المسلمين خسائر كبيرة، في جميع المجالات العلمية، مما جعلهم في مؤخرة التقدم الحضاري.

لقد أقام أئمة الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، مذاهبهم، على مناهج ونظريات وقواعد، تخدم توجهاتهم (العقدية والتشريعية)، فأصبح لكل فرقة، مصادرها التشريعية الخاصة بها، ومروياتها المنسوبة إلى رسول الله، التي إن صحت عندها، لم تصح عند الفرق الأخرى!!

فهل يُعقل، أن يجعل الله تعالى (المرويات) الظنية الثبوت عن الرواة، وليس حتى عن رسول الله، يجعلها مصدرا تشريعيا ثانيا، مبيّنا ومكملا لأحكام القرآن، ويكون هو (السنة النبوية) التي يكفر منكرها؟!

وهل قدم أئمة كل فرقة، لأتباعهم المقلّدين بغير علم، الذين فهموا أن الإسلام هو إسلام (الفرقة) التي ينتمون إليها، وأن علماء الإسلام هم علماء (الفرقة)، وأن (السنة النبوية) الصحيحة، هي التي حملتها مرويات (الفرقة)..، هل قدم هؤلاء الأئمة، برهانا واحدا، يثبت صحة هذه الادعاءات؟!

إنني، ومنذ نهاية السبعينيات، وخلال رحلتي من الإيمان الوراثي (المذهبي)، إلى الإيمان (العلمي) اليقيني..، لم أجد إماما من أئمة الفرق الإسلامية، يملك برهانا واحدا، على أن (نصوص) الدين التي ارتضاها الله للناس جميعا، هي آيات (الكتاب)، ومرويات (السنة) المذهبية!!

فهل يوجد مسلم، على هذه الأرض، يشك في صحة نسبة آيات (الكتاب)، إلى الله تعالى؟!!

الجواب: لا، لا أحد من المسلمين (مطلقا)!!

وهل يوجد مسلم، على هذه الأرض، يشك في صحة نسبة (مرويات) الفرق المختلفة إلى رسول الله؟!

الجواب: نعم، يوجد الكثير والكثير …، وفي مقدمتهم علماء الجرح والتعديل!!

إنني لم أجد برهانا واحدا، يثبت صحة نسبة (مرويات) الفرق المختلفة إلى الله تعالى، ولا حتى إلى رسول الله..، وإنما وجدت أن صحة هذه النسبة، لا تتعدى الرواة الذين نقلوا هذه (المرويات)، وهذا يتوقف على شروط علماء الجرح والتعديل، وخاصة شرط (العدالة)، وهل هذا الشرط، يشمل جميع الصحابة، وهم الحلقة الأولى من سلسلة حلقات (السند الروائي)، أم يشمل فريقا منهم..، هذا الإشكال الكبير، القائم بين أكبر فرقتين من الفرق الإسلامية، السنة والشيعة؟!!

فهل يُعقل، أن يؤمن المسلمون بمرويات مصدر تشريعي، لا برهان على أنها شريعة إلهية، ولا على أن الرسول أشرف على تدوينها بنفسه، ولم يشهد عصر (الخلافة الراشدة) مدونة واحدة باسمها؟!

هل يُعقل، أن تُسفك الدماء بغير حق، استنادا إلى (مرويات) مصدر تشريعي، إن صحت عند فرقة، لم تصح عند أخرى، وإن صحت عند (مذهب فقهي) من مذاهب الفرقة الواحدة، لم تصح عند آخر؟!

فكيف ندعو إلى محاربة الإرهاب، والتطرف الديني، والمؤسسات الدينية تقوم على حراسة المرجعيات التي يستند إليها الإرهابيون، في إثبات شرعية أعمالهم، التي تتم تحت سمع وبصر هذه المؤسسات الدينية، وتحت راية العمل بالكتاب والسنة؟!

لقد كنت حريصا، خلال رحلتي من الإيمان (الوراثي)، إلى الإيمان (العلمي)، أن أجري حوارات مع علماء من الفرق الإسلامية المختلفة، وكان المحور الأساس لهذه الحوارات، هو الوقوف على مفهوم (السنة النبوية)، وحكم من ينكرها، وذلك بطرح عدة أسئلة:

أولا: ما هو مفهوم (السنة النبوية)، من وجهة نظر أئمة كل فرقة؟!

ثانيا: ما هي المصادر التي تستقي منها كل فرقة نصوص (السنة النبوية)؟!

ثالثا: هل أجمع علماء الجرح والتعديل، عند جميع الفرق، على عدالة وجرح رواة (السنة النبوية)؟َ!

رابعا: هل قولهم إن هذا الحديث (صحيح)، يعني أن الرسول قاله؟!

خامسا: ما موقف علماء كل فرقة من باقي علماء الفرق الأخرى؟!

ولقد كان من الطبيعي، أن أجد إجماعا حول المفهوم المذهبي لـ (السنة النبوية)، وهو: كل ما صدر عن (النبي) من قول أو فعل أو تقرير… ، في الوقت الذي يختلفون فيه اختلافا كبيرا، وجذريا، حول حجية مصادر (السنة النبوية)، ومن ذلك:

أولا: لا تعتبر مرويات (السنة النبوية) حجة، إلا إذا كان الرواة، ينتمون إلى الفرقة أو إلى المذهب، الذي ينتمي إليه علماء الجرح والتعديل، فقد فوجئ علماء الجرح والتعديل، لفرقة أهل السنة (على سبيل المثال)، بعد قرن من تدوين المحدثين لأمهات كتب الحديث، أن عددا كبيرا من الرواة المذكورين في كتب أهل السنة، ليسوا من أهل السنة، وإنما من أتباع فرق أخرى، فما كان منهم إلا أن أضافوا في كتبهم، (عن رواة الشيعة)، هذه العبارات:

(فلان ثقة إلا أنه رافضي) – (إلا أنه رمي بالتشيع) – (إلا أنه مغال في التشيع) – (يروي أحاديث في فضائل أهل البيت) – (من شيعة عليّ) – (كان معروفا بالتشيع من غير سب) – (كثير العبادة والغزو، لكنه شيعي)…، إلى آخر التعبيرات التي تعني رفض رواية الشيعي، أو تضعيفها!!

وهكذا كان موقف الشيعة من رواة أهل السنة، فقالوا: فلان (ناصبي)، لا تقبل روايته.
ثم انظر ماذا يعني قولهم: «فلان كان معروفا بالتشيع (من غير سب)»، والذي يعكس حال المسلمين، بعد أحداث (الفتن الكبرى)، وتفرقهم إلى طوائف متصارعة، يسب بعضهم بعضا، تحت رعاية الدولتين الأموية والعباسية، وبرهان ذلك مفصل في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية!!

ولذلك، لم تنجح جهود التقريب بين الفرق والمذاهب المختلفة، (ولن تنجح)، بعد أن تشربت قلوب أتباعها، أزمة التخاصم والتكفير، وأصبحنا نرى اليوم، أئمة وعلماء كل فرقة، يتحدثون عبر الفضائيات، باسم (الأمة الإسلامية)، وباسم (السنة النبوية) الصحيحة!!

ثانيا: لا تعتبر (توثيقات)، و(توهينات)، علماء الجرح والتعديل حجة، فقد مرت بعصور زمنية مختلفة، في غياب الإشراف العلمي من قبل (الخلافة الإسلامية)، التي لديها إمكانات البحث والتحري عن أحوال الرواة…، لذلك أخذ (السند الروائي) ينمو وينمو، حتى توقف عند عصر تدوين علماء الجرح والتعديل لكتبهم، ولم يظهر كتابا واحدا من أمهات كتب الجرح والتعديل، باسم (الخلافة الإسلامية)، ودُوّن تحت إشرافها!!

ثالثا: إن اختلاف الرواة، والمحدثين، وعلماء الجرح والتعديل..، حول صحة الحديث وضعفه، يُسقط حجية الحديث من قواعده، هذا إذا اعتبرناه نصا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع، ذلك أن الحكم على الراوي جرحا أو تعديلا، يخضع لوجهات نظر المحدثين، وعلماء الجرح والتعديل، بل قد تتعارض أقوال الجارحين والمعدلين في الراوي الواحد، فيوثقه بعضهم ويجرحه آخرون، وبرهان ذلك مُفصّل في أمهات كتب الجرح والتعديل!!

رابعا: إن قول علماء الحديث (هذا حديث صحيح)، إنما يقصدون بهذه الصحة ظاهر الحال لا حقيقا، فقد يصح الحديث وفق شروطهم في ظاهر الحال، بينما هو باطل في حقيقته، وذلك لمضي قرن ونصف من الزمن، (على أقل تقدير)، على ما وصل إليهم من معلومات عن الرواة، وما حملوه من مرويات، عبر رحلتها إلى عصر التدوين!!

لقد كانت تربطني بفضيلة الشيخ محمد الغزالي قنوات اتصال علمية، وكنت قد قدمت له دراسة بعنوان «نحو تأصيل الخطاب الديني»، هي خلاصة ما توصلت إليه من نتائج، بعد دراستي للأصول العقدية التي قامت عليها الفرق والمذاهب المختلفة!!

ثم صدر كتاب الشيخ الغزالي «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، فقوبل بسيل من الاتهامات، وحكمت عليه بعض المذاهب السلفية بالردة والكفر…، فذهبت إلى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، د/ عبد الله المشد، وأعطيته هذه الدراسة، «نحو تأصيل الخطاب الديني»، وطلبت من لجنة الفتوى، أن تجيب على هذا السؤال:

«ما حكم من أنكر استقلال السنة، بإثبات الإيجاب والتحريم، هل يعد كافراً؟!»

وجاء رد لجنة الفتوى، في (١- ٢ -١٩٩٠م) على النحو التالي:

«من أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم، فهو منكر لشيء اختلف فيه الأئمة، ولا يعد مما علم بالضرورة، فلا يعد كافراً».

وقد قمت بتقديم هذه الفتوى إلى فضيلة الشيخ الغزالي، فقام بنشرها في كتابه «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل»، الفصل التاسع، على هامش السنة!!

وأقول: إن (السنة النبوية)، (حقيقة قرآنية)، ولكن كيف؟! بيان ذلك في المقال القادم.

«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ (الْقُرْآنَ) ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ (غَيْرِ اللَّهِ) لَوَجَدُوا فِيهِ (اخْتِلَافًا كَثِيرًا)»!!

محمد السعيد مشتهري

معلومات

* الإيمان الوراثي: هو الإيمان الذي يرثه الأبناء عن الآباء، القائم على التقليد والمحاكاة بغير علم، (بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، والذي يجب أن يعيد المرء النظر فيه، بعد بلوغه النكاح، واكتمال رشده!!

* فلان (رافضي): مصطلح، يستخدمه علماء الجرح والتعديل، لفرقة أهل السنة، يصفون به من رفض خلافة أبي بكر، ويقصدون به (الشيعة)!!

* فلان (ناصبي): مصطلح، يستخدمه علماء الجرح والتعديل، لفرقة الشيعة، يصفون به من ناصب العداء لعلي بن أبي طالب، ويقصدون به (أهل السنة)!!

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى