إن نسبة أي نص تشريعي إلى (النبي)، يجب أن تكون قطعية الثبوت عن الله، (وليس عن النبي)، فمقام «النبوة»، مقام «تلقي» عن الله، مقام (وحي)، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لذلك، كان من الخطأ الكبير، أن يُدوّن المحدثون بعد قرنين من وفاة النبي، (على أقل تقدير)، كل ما تناقلته ألسن الرواة، من مرويات، منسوبة إلى (النبي)، تحمل أقوالا وأفعالا وتقريرات …، دون تمييز بين ما كان يحدث في «عصر التنزيل»، و(النبي) في «مقام النبوة»، هذا المقام الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بظروف وأحداث هذا العصر، والذي انتهت فاعليته بوفاة «النبي»..، وبين (النبي) وهو في «مقام الرسالة»، هذا المقام الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بالنص القرآني، الذي حمل ما شاء الله أن يتضمنه القرآن، من أحداث «عصر التنزيل».
لقد نقل صحابة رسول الله إلى (التابعين)، ونقل التابعون إلى (تابعي التابعين) …، كل ما كان يحدث في عصر «التنزيل»، عصر «اكتمال الدين»، سواء كان (خاصا) بهذه المرحلة التشريعية الانتقالية، أو (عاما)، حمله القرآن لكل العصور، إلي يوم الدين.
ومن الأحداث الخاصة بـ «عصر التنزيل»، والتي ما كان للصحابة أن يتداولوها، وما كان للرواة أن ينقلوها إلى (عصر التدوين)، وما كان للمحدثين أن يُدوّنوها في كتبهم، وما كان لها أن تصل إلينا اليوم، عبر تراث الفرق والمذاهب المختلفة….، ما يُعرف بـ (حادثة الإفك)!!
إن القرآن لم يذكر شيئا عن تفاصيل (حادثة الإفك)، لا عن الذين شاركوا فيها، ولا عن المرأة التي أصابها…، وإنما أشار فقط إلى ما يمكن للناس كافة، على مر العصور، الاستفادة منه وهو:
«إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ (عَذَابٌ أَلِيمٌ) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»!!
وحذر الله تعالى، صحابة رسول الله، من تداول ونشر هذا (الإفك) بين الناس، فقال تعالى:
– «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ»
– «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ (عَذَابٌ عَظِيمٌ)»
فهل التزم الصحابة بتحذير الله لهم؟! لا لم يلتزموا، والرسول مازال يعيش بينهم!!
ثم انظر إلى العقوبة التي كان من المفترض أن تصيبهم لولا أن الله تغمدهم برحمته: «لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»!!
فهل معنى أن الله تعالى رحمهم، ولم يعاقبهم بهذا العذاب العظيم، وقد يكون ذلك بسبب ظروف هذه المرحلة التشريعية الانتقالية، من «عصر التنزيل»…، هل معنى هذا، أن يعودوا (بعد وفاة النبي)، لتداول ونشر تفاصيل هذا (الإفك)، ليصل إلى ألسنة الرواة، مع آلاف المرويات الأخرى، ثم يأتي (المحدثون)، فيدوّنوها في أمهات كتب (الحديث)، وتصبح من نصوص «السنة النبوية» واجبة الاتباع؟!!
هل تدبر الذين أشاعوا هذا (الإفك)، من صحابة، وتابعين، وتابعي التابعين…، ومحدثين، وعلماء الفرق والمذاهب، والمشايخ…، هل تدبروا قول الله تعالى:
«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ – وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ – (مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) – وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً – وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ»؟!
إن قوله تعالى: «وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ – مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ»، من أقوى البراهين الدالة على سقوط ما يُسمى بعلم (الجرح والتعديل) من قواعده، ذلك لأن الحلقة الأولى من سلسلة حلقات (السند الروائي)، وهي الصحابة، قامت على أساس أن جميع الصحابة (عدول)، لا يستطيع أحد الاقتراب منهم بـ (جرح)، مهما فعلوا في حياتهم..، في الوقت الذي يُبيّن الله فيه، أن من الصحابة منافقين، ومنهم الذين نقلوا روايات هذا (الإفك)!!
فإذا كان الصحابة، الذين عاصروا هذه الحادثة (زمانا ومكانا)، تداولوا بينهم (روايات) باطلة، مفتراة…، فكيف بحال (الروايات)، التي نسبها الرواة إلى الصحابة، مرفوعة إلى النبي، ودوّنها المحدثون في أمهات الكتب، بعد قرنين من وفاة النبي، وادعوا أنها حملت (السنة النبوية)، التي أمر الله اتباعها؟!
هل تدبر جهابذة علم الحديث، من الفرق والمذاهب المختلفة، قول الله تعالى: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) – (قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) – (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)…، قبل تدوين ونشر روايات هذا (الإفك)؟!
وهل تدبر الأئمة، والمشايخ، والدعاة، قول الله تعالى: (يَعِظُكُمْ اللَّهُ) – (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) – (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)، قبل أن ينشروا، على منابر الدعوة الإسلامية، المحلية والفضائية، مرويات هذا (الإفك)؟!
ولكن السؤال: لماذا لم يُدخل أئمة الجرح والتعديل الصحابة، الذين أشاعوا هذا (الإفك)، دائرة (الجرح)، وقد استحقوا العذاب العظيم، بعد تداول ونشر روايات هذا (الإفك)، بعد وفاة النبي؟!
لماذا لم يستبعد أئمة التصحيح والتضعيف في عصر التدوين، هذه الروايات من التراث الديني كله؟! والجواب: على أمل أن يأتي جهابذة (علم الحديث)، في عصر من العصور، فيوحي الله إليهم بـ (الأحاديث النبوية) الصحيحة، التي خرجت على لسان (النبي)!!
ولكن الأهم من ذلك: هل كان رسول الله يعلم أسماء هؤلاء الذين شاركوا في تداول وإشاعة هذا (الإفك) بين الناس؟! الجواب: احتمال لا، لأن الله تعالى قال له:
«وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، (لا تَعْلَمُهُمْ) نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ»!!
إذن، فعلى أي أساس شرعي، ذهب أئمة الجرح والتعديل، إلى أن الصحابة كلهم (عدول)، ومنهم من كان (النبي) لا يعرفهم؟!!
لقد قام (علم الحديث) عند أهل السنة، على قاعدة (عدالة الصحابة)، وقام عند الشيعة على قاعدة (عصمة الأئمة)، وعلى هذا الأساس، خرج كل (الصحابة)، عند أهل السنة، وخرج كل (الأئمة) عند الشيعة، من دائرة (الجرح)، فلماذا وضعوا هذه القواعد؟!
والجواب: لأنه لو سقطت الحلقة الأولى (الصحابة، والأئمة)، من (السند الروائي)، سقط (علم الحديث) كله، فكان من الضروري المحافظة على هذه الحلقة، والتنظير والتقعيد لها، بأي شكل، وبأي مبرر، حتى لو خالف هذا المبرر القرآن، وأدى إلى سفك دماء المخالفين لهذه التقعيدات!!
إنه من الخطر الكبير، أن نعتمد في فهم النص القرآني، على مرويات (مذهبية)، شقت طريقها بين المسلمين، وأخذت قدسية «النص القرآني»، بل وأصبحت تنافسه، بدعوى أنها حملت «السنة النبوية» المبينة للقرآن، والمكملة (والناسخة) لأحكامه!!
إن تفعيل النبي لآيات الكتاب، ثبت ثبوتا قطعيا عن النبي، في عصر الرسالة، وهذا التفعيل هو (سنة النبي)، التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بآيات الكتاب، فهل يُعقل، أن يتحول هذا الارتباط الوثيق بآيات الكتاب، إلي ارتباط وثيق بمرويات الفرق المختلفة، التي ظهرت بعد وفاة النبي؟!
إن كل ما يُتهم به (الإسلام) اليوم، من فتاوى استحلال الدماء والأعراض بغير حق، ومن سلبٍ لحرية المرء في الاعتقاد، والحكم على المخالف للمذهب بالردة، والتكفير والتفسيق بدعوى إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإعادة فتح أسواق (النخاسة)، لبيع وشراء النساء…، كل ذلك حدث بعد أن حكمت ثقافة (المرويات)، فقه (الآية القرآنية)، بدعوى اتباع (السنة النبوية)!!
إنه لا سبيل للخروج من أزمة التفرق والتخاصم بين المسلمين، ومن الخلافات الفقهية المتلاطمة الأمواج، إلا بتدبر كتاب الله تعالى، والتعامل معه باعتباره (الآية القرآنية)، التي حملت في ذاتها، البرهان على صدق من أنزلها، وصدق من بلغها.
«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
محمد السعيد مشتهري
—————————-
معلومات:
* الإفك: صرف الشيء عن حقيقته، كالصرف عن الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح.
* التصحيح والتضعيف: الأساس الذي قام عليه (علم الحديث)، وهو مسألة اجتهادية، خضعت لمذاهب أئمة الجرح والتعديل، لذلك لم يحدث اتفاق بين أئمة (الحديث)، ولا بين أئمة (الفقه)، حول عدد الأحاديث التي صحت نسبتها إلى النبي!!