إن حُجية الرسالة الإلهية، لا تقوم على اجتهادات السلف، ومذاهبهم الفقهية، ومروياتهم الظنية، وإنما على ما يحمله «الرسول»، من برهان إلهي، يثبت صدق «نبوته»، وبلاغه عن الله.
ولقد (أرسل) الله (نبيه) الخاتم محمدا، عليه السلام، بـ (رسالة) حملت في ذاتها البرهان على صدق «نبوته»، فجاءت «آية قرآنية»، تخرج الناس من الظلمات إلى النور:
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {1} إبراهيم
فهل أخرج أئمة السلف و(الخلف)، أنفسهم (قبل أن يخرجوا الناس)، من ظلمات الفرقة والمذهبية، إلى نور «الآية القرآنية»؟!
الحقيقة أن أئمة السلف و(الخلف)، أخرجوا أنفسهم، من نور «الآية القرآنية»، إلى ظلمات الفرقة والمذهبية!!
إن الذين تفرقوا إلى طوائف وجماعات وأحزاب دينية (عقدية وتشريعية)، هؤلاء ما قدروا (الله) حق قدره، فقد أعطوا ظهورهم للتحذير الإلهي، الذي خاطب الله به (رسوله والذين آمنوا معه) في عصر الرسالة، قائلا:
«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ – وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ – وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ – مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ – وَكَانُوا شِيَعاً – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».
إن الذين تفرقوا إلى طوائف وجماعات وأحزاب دينية، (عقدية وتشريعية)، هؤلاء ما قدروا (رسول الله) حق قدره، وأعطوا ظهورهم لسنة (الرسالة الإلهية)، واتبعوا سنة (البشر المذهبية)، وقد قال الله لرسوله:
«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً – لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ – إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ – ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».
إن الله ورسوله، بريئان مما يفعله أتباع الجماعات والأحزاب والتنظيمات الجهادية اليوم، باسم (السنة النبوية)، أو باسم (الحديث النبوي)، أو باسم (المصدر الثاني للتشريع)، فليس من حق «النبي»، أن يُشرع أحكاما، خارج حدود (الكتاب)، الذي أمره ربه أن يبلغه للناس؟!
وبرهان ذلك: أننا إذا تدبرنا آيات الذكر الحكيم، فلن نجد مطلقا آية واحدة، تبيّن أن المسلمين يرثون (بعد وفاة النبي)، مصادر تشريعية، حسب توجهات أئمتهم العقدية والتشريعية…، وإنما سنجد أن المسلمين، (بعد وفاة النبي)، يرثون كتابا واحدا فقط، هو كتاب الله، فتدبر قوله تعالى في سورة فاطر:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ (الْكِتَابِ) هُوَ الْحَقُّ ….. ثُمَّ أَوْرَثْنَا (الْكِتَابَ) الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ …».
إن قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ»، دليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، على أن الله لم يؤت (رسوله)، نصوص مصدر تشريعي غير (الكتاب)!!
إن قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ»، دليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، على إن الله لم يأمر (رسوله) محمدا، عليه السلام، أن يبلغ الناس (نصا تشريعيا)، غير القرآن!!
فمن أين جاء أئمة السلف و(الخلف)، بأن نصوص الشريعة الإسلامية: (كتاب – وسنة)؟! من الذي أقحم كلمة (السنة)، في سياق نصوص الشريعة الإلهية؟!
إن الإجابة على هذا السؤال، تجعلني مضطرا أن أخالف منهجي في الاستدلال على حجية ما أقول (بالنص القرآني)، وأذهب إلي هذا المصدر التشريعي المفترى، وأستخرج منه روايتين، ظن كثير من المسلمين أنها قرآن!!
الأولى أقام عليها (أهل السنة) حجية مصدرهم الثاني للتشريع!!
والثانية أقام عليها (الشيعة) حجية مصدرهم الثاني للتشريع!!
طبعا هذا بالإضافة إلى تأويلاتهم المذهبية لآيات الذكر الحكيم، التي أخرجوها من سياقاتها، ووظّفوها لخدمة توجهاتهم العقدية والتشريعية!!
يستند أهل السنة، في إثبات حجية مصدرهم الثاني للتشريع، إلى رواية مالك بن أنس في الموطأ، باب النهى عن القول بالقدر، (بلاغا)، أن رسول الله قال:
«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: (كتاب الله) وسنة رسوله». (قول مالك [بلاغا]: أي بلغه، وهذا يعتبر انقطاعا، يُضعف الرواية)
ويستند الشيعة إلى رواية الترمذي (سني المذهب) في المناقب، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يقول:
«إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: (كتاب الله) وعترتي أهل بيتي». (قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب).
نلاحظ أن العامل المشترك بين الروايتين وهو: (كتاب الله)، ثم أضاف أهل السنة (وسنة رسوله)، لإعطاء شرعية لمصدرهم الثاني للتشريع، وأضاف الشيعة (وعترتي أهل بيتي)، لإعطاء شرعية لمصدرهم الثاني للتشريع، فهل يمكن أن يكون هذا العمل، من (دين الله) الذي أنزله على رسوله، قبل ظهور هذه الفرق، وهذه المذاهب المختلفة؟!
لذلك كان من الطبيعي، أن يقبل علماء (الجرح والتعديل)، الروايات التي تخدم توجههم العقدي والتشريعي، فقبل أهل السنة (السند الروائي) الذي لا يخالف مذهبهم (ملة وشريعة)، وكذلك فعل الشيعة، ثم جاء عصر التدوين، فظهرت أمهات كتب التراث الديني، التي بين أيدي أتباع الفرقتين اليوم!!
فهل يمكن أن يُفوض الله رسوله محمدا، في تفسير آيات الذكر الحكيم، وفي استكمال ما نقص منها من أحكام، باسم (السنة النبوية)، ثم يترك (الرسول) نصوص هذه (السنة النبوية) تتناقلها ألسن الرواة، ما لا يقل عن قرنين من الزمن، من وفاة النبي، ثم يأتي علماء (الجرح والتعديل)، لفرزها، وتنقيتها، للوصول إلى حقيقة ما قاله النبي، كلٌ حسب مذهبه في التصحيح والتضعيف؟!!
إن الذي غاب عن أئمة السلف (والخلف)، أننا عندما ننسب شيئا إلى «النبي»، يجب أن تكون هذه النسبة، قطعية الثبوت عن الله تعالى، وليس عن النبي، لماذا؟!
لأن «النبي» محمد، عليه السلام، «منبأ» من الله تعالى، فمقام «النبوة» مقام «تلقي» عن الله، لذلك يحرم أن ننسب إليه، أي (نص تشريعي)، لم تثبت صحة نسبته إلى الله تعالى!!
أما «الرسول» محمد، عليه السلام، فهو «النبي»، حال كونه حاملا رسالة ربه، ليبلغها للناس!!
لذلك كان من الخطأ الكبير، أن ينقل الرواة، كل ما صدر عن (النبي) من أقوال وأفعال وتقريرات … دون تمييز بين «مقام النبوة»، المرتبط ارتباطا وثيقا بالوحي، وبعصر «التنزيل واكتمال الدين»، وتنتهي فاعليته بوفاة «النبي»…، وبين «مقام الرسالة»، المرتبط ارتباطا وثيقا بالرسول، المبلغ عن الله رسالته، هذه الرسالة التي لا تخرج (مطلقا) عن حدود الكتاب الذي أنزله الله عليه.
مثال: يقول الله تعالى في سورة التحريم:
«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً – فَلَمَّا (نَبَّأَتْ) بِهِ – وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ – عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ – فَلَمَّا (نَبَّأَهَا) بِهِ – قَالَتْ مَنْ (أَنْبَأَكَ) هَذَا – قَالَ (نَبَّأَنِي) الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ».
هذا النص القرآني، نزل على (رسول الله)، ليبلغه للناس، وهو في (مقام الرسالة)، أما (تفاصيل) الأحداث التي أشار إليها هذا النص، فكلها حدثت والرسول في (مقام النبوة)، حيث الارتباط الدائم بين (النبي) و(الوحي)، لمواجهة إشكالات وتحديات هذه المرحلة الانتقالية، من عصر «التنزيل واكتمال الدين»!!
إن كل ما أوحاه الله لرسوله، في عصر «التنزيل واكتمال الدين»، ليس شرطا أن ينزل به قرآن، وإنما نزل القرآن، بما شاء الله أن يتضمنه، من هذه المرحلة التشريعية الانتقالية.
البرهان: انظر إلى قوله: «نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»، والذي يُفهم منه، أن الله (نبأ) رسوله، بما حدث من بعض أزواجه، بوحي (غير القرآن)، ودليل ذلك أن القرآن لم يذكر تفاصيل هذا (النبأ)!!
فإذا تداول الصحابة، تفاصيل هذا (النبأ)، نقلا عن أزواج النبي، ثم تناقلتها ألسن الرواة حتى وصلت إلى عصر التدوين، ثم دوّنها المحدثون في الكتب، باعتبارها (سنة نبوية)…، هل يعني هذا، أنها أصبحت من (الدين الإلهي) واجب الاتباع!!
إن محمدا، عليه السلام، سواء كان في «مقام النبوة»، أو في «مقام الرسالة»، يستحيل أن يشير (مجرد إشارة) إلى أصحابه، بتدوين كلمة واحدة من كلامه، ويقول لهم: إن هذه من «السنة النبوية»، التي يكفر منكرها!!
لقد توفي «النبي»، ولم يترك غير القرآن، وخير شاهد على ذلك، أن ننظر إلى تاريخ ولادة ووفاة كل الذين دوّنوا أمهات كتب التراث الديني (من تفسير وحديث وفقه وسير …)، هذه الكتب، التي أقام عليها المسلمون تدينهم الوراثي المذهبي…، فلن نجد مدونة واحدة، شهد النبي، قبل وفاته، أو الخليفة الأول (أبوبكر)، أو الثاني (عمر)، أنها من (السنة النبوية) واجبة الاتباع؟!
إن على كل مسلم (تابع)، أن ينظر في حقيقة (المتبوع)، وهل هو حقا (النبي)، أم علماء (الحديث)، الذين قالوا له: هذا صح عن النبي، وهذا لم يصح؟!
«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»