عندما نتحدث عن «اللسان العربي»، كأداة من أدوات فهم القرآن، فنحن نتحدث عن اللسان الذي نزل به القرآن.
وعندما نتحدث عن «اللغة العربية»، فنحن نتحدث عن لسان فقهاء اللغة العربية، وما دوّنوه في كتبهم، بداية بكتاب «العين» للفراهيدي (١٠٠-١٧٠هـ)، الذي دُوّن في القرن الثاني الهجري.
لقد اختلط «لسان القرآن»، بلسان فقهاء اللغة العربية، ومذاهبهم المختلفة، مما جعل الاعتماد عليها، بمعزل عن «السياق القرآني»، وفقه «لسان القرآن»، يُفقد الكلمة القرآنية دلالتها الحقيقية.
لقد جاء فعل (القتل)، في السياق القرآني، بمعنيين:
الأول: المعنى الصريح، الذي نقلته «منظومة التواصل المعرفي»، من لدن آدم عليه السلام، وهو إزهاق النفس بفعل فاعل، ويؤكد هذا المعنى، ما ورد في سياق آيات سورة المائدة (٢٧-٣٣)، وقوله تعالى:
«فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ» – «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ».
ثم بعدها جاء بالتشريع العام، في مسألة «القتل»، فقال تعالي:
«مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً…».
ثم بيّن أن هذا «القتل»، عقوبة من عقوبات الإفساد في الأرض، فقال تعالى:
«إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا، أَوْ…، أَوْ…»
فإذا ذهبنا إلى قول موسى لقومه:
«.. فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ..»
علمنا أن الآية جاءت في سياق بيان نعم الله على بني إسرائيل، ومن هذه النعم، أنه سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم، قتلا حقيقة، امتحانا لهم وابتلاء، على ما اقترفوه من إثم عبادة العجل، ثم رفع عنهم هذا التكليف:
«فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
وعندما يقول الله تعالى، في سياق الحديث عن أكل الأموال بالباطل:
«وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً»
نفهم من سياق الآية، أن أكل أموال الناس بالباطل، يؤدي لا محالة إلى قتل الأولاد (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) بسبب الفقر، أو القتل من أجل السرقة، أو الانتحار!!
المعنى الثاني: هو المعنى المجازي، الذي نقلته أيضا «منظومة التواصل المعرفي»، ويحكمه السياق القرآني، كما ورد في قوله تعالى:
«إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ – فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ – ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» – «قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ – مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ»
وهذا المعنى المجازي، ليس متروكا لفقهاء اللغة ومذاهبهم المختلفة، وإنما يحكمه السياق القرآني، وما يحمله من دلائل تشير إليه.
ومن هذه الدلائل، للمعنى المجازي لفعل «القتل»، ما ورد في سياق الحديث عن المنافقين، حيث يقول تعالي:
«.. هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ (قَاتَلَهُمْ اللَّهُ) أَنَّى يُؤْفَكُونَ»
فقوله تعالى: «قَاتَلَهُمْ اللَّهُ»، يعني أهلكهم الله وأبادهم، وهذا المعنى يعلمه العرب جيدا، ويستخدمونه عند الدعاء على أحد بالإهلاك، ثم جاء قوله تعالى «أَنَّى يُؤْفَكُونَ»، ليدل على التعجب من انصراف المنافقين عن الهدى، مع وضوح دلائله، وانتظارهم الهلاك!!
ولا دليل في كتاب الله، يصرف معنى «القتل»، عن دلالته القطعية، سواء كانت صريحة، وهي إزهاق النفس (الإماتة)، أو مجازية، الدعاء بالاستئصال والهلاك، كما ورد في السياق القرآني.
أما القول بأن لفعل «القتل» درجات، كما يزعم البعض، منها التخفيف من طاقة الشيء، أو التضييق عليه، أو الكبح من جماحه …، ثم آخرها الإماتة، فهذا لا علاقة له (مطلقا) بلسان القرآن، وإنما قد نجده عند فقهاء اللغة العربية!!
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ – وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً»