لقد نزل القرآن يربط قلوب الناس «ملة وشريعة» بخالقهم، ويدعوهم إلى إقامة الإيمان على أصول خمسة هي:
الإيمان: «بِاللّهِ – وَمَلاَئِكَتِهِ – وَكُتُبِهِ – وَرُسُلِهِ – وَالْيَوْمِ الآخِرِ»
ويُبيّن لهم أن هذه الأصول الإيمانية يجب أن تسري في دمائهم ودماء أبنائهم، فلا تخلو حياتهم من التذكير بها «فهمًا»، والعمل بمقتضاها «سلوكًا عمليًا» فقال الله تعالى «الأنعام / ١٦٢-١٦٣»:
* «قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»
لقد نزل القرآن يأمر الناس بالدخول في «دين الإسلام» وإقامة مجتمع «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» الذي يتخذ من «بيت النبوة» أسوة حسنة «الأحزاب / ٣٣»:
* «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً – وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ»
وكان لابد من بيان أن أول الطريق إلى تطهير قلوب الناس هو «الأم» الحاضنة لهم، والتي يجب أن تكون على علم وحكمة لتستطيع تربية أولادها التربية الصالحة، وهذا ما أفاده قوله تعالى:
* «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ»
إن أول الطريق إلى تطهير قلوب الناس هو البيئة التي ينشؤون فيها، هو «البيت المؤمن» الذي يرى الوالدان «دين الإسلام» برؤية إيمانية حضارية، تعلم مستقبل أولادهم ومصير الأجيال القادم.
# أولًا:
إن ما نشاهده اليوم من انحراف عن صراط الله المستقيم، ومن تفكك أسري وتمزق عائلي دَفَعَ ويَدْفَع ثمنه الأولاد، بسبب غياب معلومة في غاية الأهمية بالنسبة لمصيرهم في الآخرة، وهي:
عدم إدراك الفرق بين «الإيمان» و«النفاق»، وأنه خيط رفيع قد لا يراه الإنسان بالعين المجردة، ولكنه عند الله تعالى بحجم نار جهنم، ولذلك قال الله تعالى «النساء / ١٣٦»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ – آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ – وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ – وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ»
* «وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ – فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً»
ونلاحظ أن كلمة «البعيد» التي وصف الله بها «الضلال» تُعبّر عن مدى بُعد المسافة التي تفصل بين موقع من كفر بهذه الأصول الإيمانية الخمسة نتيجة البيئة التربوية الكافرة التي نشأ فيها، وبين المكان الذي يريد العودة إليه في حالة التوبة.
١- إننا نلمس بأيدينا، ونشاهد بأعيننا، هذا الضلال «البعيد» الذي يعيش بداخله أولاد المسلمين نتيجة غياب التربية الصالحة، حتى أصبحوا يقبلون العمل بأحكام «الشيطان»، ممثلا في القراءات القرآنية الإلحادية والتنويرية، ولا يقبلون العمل بأحكام «القرآن».
والسؤال:
كيف يخاطب الله «الَّذِينَ آمَنُواْ» ويقول لهم «آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ» ثم يحذرهم من الكفر بأصول الإيمان الخمسة؟!
إن الذي لا يلتزم بأصول الإيمان الخمسة، سلوكًا عمليًا وتربويًا في حياته وحياة من يعول، هو «المنافق» الذي «ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً» وأشارت إليه الآية السابقة، وجاء بيان طبيعة مرض قلبه في موضع آخر، فيقول الله تعالى «النساء / ١٣٧»:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ – ثُمَّ كَفَرُواْ – ثُمَّ آمَنُواْ – ثُمَّ كَفَرُواْ – ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً – لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ – وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً»
٢- وإياك أن تشعر وأنت تقرأ هذه الآية أنك لست منهم، لأنك إذا شعرت بذلك فاعلم أنك منهم، لأن هذه الآية لا تتحدث عن «الكفر» بمعناه العقدي المعروف، وإنما تتحدث عن «النفاق» باعتباره ملة من ملل «الكفر».
إن «الكفر» بمعناه العقدي المعروف الذي يسبق الإيمان، يغفره هذا الإيمان ويمحوه، أما الكفر الذي يأتي بعد إيمان «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ» ثم بعد إيمان «ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ»، «ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً»، فهذا معناه «كفر النفاق»، أي أن هذا «الإيمان» لم يكن «إيمانًا صادقًا» وإنما مجرد ادعاء، ولذلك كانت النتيجة الطبيعية:
«لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً»
وهذا ما بيّنه القرآن عندما كشف الله عن حقيقة إيمان الأعراب المنافقين الذين ادعوا الإيمان، فقال تعالى «الحجرات / ١٤»:
* «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا – قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا – وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا – وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ …»
ثم جاء بيان حقيقة «الإيمان الصادق» فقال تعالى بعدها «الحجرات / ١٥»:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ»
# ثانيًا:
إذن فما هو «النفاق»؟!
إن «النفاق» مرض قلبي خبيث، كـ «السرطان»، لا يشعر بآلامه المريض إلا بعد أن يكون قد أمسك بعضو من أعضاء جسمه، ولذلك قد نجد «منافقًا» لا يشعر بنفاقه ويُصلي ويقوم الليل ويزكي ويصوم ويحج كل عام ويعتمر، ويشارك بأموال طائلة في بناء المساجد وفي مشاريع تعمير وتنمية بلده.
والبرهان على أنه مريض بـ «سرطان النفاق» أن نجده لا يعلم شيئًا عن «دين الإسلام» إلا هذه «الشعائر التعبدية» فقط التي يستغرق أداؤها في العام كله عدة ساعات، باستثناء شهر رمضان، شهر المسلسلات والتمر والمكسرات وصلاة التراويح.
١- ولقد تعود كثير من المسلمين تلاوة جزء من القرآن كل يوم في رمضان، وفي صلاة التراويح، والسؤال:
بماذا يشعر المصلّون عندما يستمعون القارئ يقرأ قول الله تعالى «الشورى / ١٣»:
* «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ – وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى – أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ – كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ – اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ»
بماذا يشعرون عندما يستمعون قوله تعالى:
* «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»
هل ستفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، وتركوا الصلاة وتركوا المسجد وذهبوا يبحثون عن حل لأزمة تفرقهم في الدين، طاعة لله الذي أمرهم بنبذ هذا التفرق؟!
أم سنراهم يستكملون الصلاة وأعينهم تفيض من الدمع بسبب جمال صوت القارئ؟!
٢- إن هذا هو معنى «النفاق» نظريًا وعمليًا، وانظروا وادرسوا واسألوا: هل حدث يوما أن ترك المصلّون مسجد من المساجد على مستوى العالم أجمع، بعد أن استمعوا إلى آية من الآيات التي تحذرهم من «شرك التفرق في الدين»، وقرّروا إلا يعودوا إلى هذه المساجد حتى يقيموا هذا الدين أمة واحدة؟!
إن هذه هي الحقيقة التي قال الله تعالى عنها «النمل / ١٤»:
* «وَجَحَدُوا بِهَا – وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ – ظُلْماً وَعُلُوّاً – فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ»
# ثالثًا:
وقد يكون هناك من أصدقاء الصفحة من يجحدون هذه الحقيقة، فمرحبا بهم، بشرط أن يُعرضوا وجهة نظرهم مدعمة بالآيات القرآنية، وألا تتضمن تعليقاتهم ما يلي:
١- أن الأبناء ورثوا الإسلام عن آبائهم المسلمين، فالسني أنجب سنيًا، والشيعي أنجب شيعيًا، والأباضي أنجب أباضيًا، والمعتزلي أنجب معتزليًا، وكلها «فرق إسلامية» بشهادة المؤرخين، فكيف تقول إنهم منافقون؟!
– لا تقولوا هذا لأني سأقول لكم:
إن شهادة المؤرخين ليست حجة في «دين الإسلام» وساقطة من قواعدها، لأن الله حذر المؤمنين في عصر التنزيل من التفرق في الدين، ومع هذا التحذير الإلهي تفرّقوا وسفكوا دماء بعضهم بعضا.
٢- أن من شهد الشهادتين وقال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فهو في الجنة حسب ما ورد في الأحاديث الصحيحة، حتى وإن فعل الكبائر التي عرفتها البشرية ودخل بسببها جهنم، لأنه سيخرج منها باعتباره مسلمًا قد نطق بالشهادتين، أما ملل الكفر فإن أهلها لن يخرجوا أصلا من جهنم.
– لا تقولوا هذا لأني سأقول لكم:
إن «جهنم» لم يخلقها الله تعالى إلا لملل الكفر الثلاث «فقط لا غير»، فقال تعالى «آل عمران / ١٣١»:
* «وَاتَّقُواْ النَّارَ – الَّتِي – أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»
تدبر: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»، فـ «جهنم» لن يدخلها مؤمن أسلم وجهه لله تعالى، وغفر الله له «مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ».
٣- ففي يوم الحساب نحن أمام «الشورى / ٧»:
«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ – وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ»
ولن نجد يوم الحساب غير كتابين:
أ: «كِتَابَ الأبْرَارِ»: «المطففين / ١٨»
وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم «الحاقة / ١٩»:
* «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ»
ب: «كِتَابَ الفُجَّارِ»: «المطففين / ٧»
وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم «الحاقة / ٢٥»:
* «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ»
والسؤال:
لقد أعد الله «الجنة» للمؤمنين المتقين الذين أسلموا وجوههم لله تعالى وأخلصوا دينهم، والتزموا بأحكام شريعته، ومصيرهم هذا يزرعون شجرته وهم في الدنيا ليجنوا ثمارها في الآخرة.
فمن يدلني على شجرة من هذه الأشجار لأكون ورقة من أوراقها؟!
# رابعًا:
إن «التفرق في الدين» شرك بالله تعالى بنص قرآني قطعي الدلالة، فيقول الله تعالى مخاطبا رسوله محمدًا والذين آمنوا معه محذرا من الشرك «الروم / ٣١-٣٢»:
* «… وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
وكما علمنا فإن «الشرك» ملة من ملل الكفر الثلاث التي مصيرها الخلود في جهنم، فهل تُصنف الملة التي يتبعها المسلمون اليوم ضمن ملل الكفر؟!
١- إن «التدين الوراثي المذهبي» الذي يحمله المسلمون قرونا من الزمن، يستحيل معه وصف المسلمين بـ «الكفر» أو بـ «الشرك» ذلك أن واقع حياتهم الدينية يثبت عكس ذلك.
٢- وإنما يجب أن نصفهم بما وصفهم الله به في القرآن فقال تعالى مخاطبا الذين آمنوا «الصف / ٢-٤»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا – لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ»
٣- نعم «لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ»:
إنه المحور الأساس الذي يدور حوله «النفاق» بجميع صوره:
أ: رفع راية الإسلام والمسلمين بدون عمل.
ب: رفع راية الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي بدون عمل.
٤- لقد حمّل الله تعالى المسلمين مسؤولية الشهادة على الناس جميعا، فقال تعالى «الحج / ٧٨»:
«… هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ …»
كما حملهم مسؤولية إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فقال تعالى «إبراهيم / ١»:
«الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»؟!
فإذا سألنا:
بماذا تصف هؤلاء الذين لم «يفعلوا» ما أمرهم الله به وهو:
«وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ»
ولم «يفعلوا» ما أمرهم الله به وهو:
«لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»
وقالوا «أقوالا»، منذ عصر التدوين وإلى يومنا هذا
لو قذفناها في المحيطات كلها
الهادي، والمتجمد الشمالي، والجنوبي، والأطلسي، والهندي
لاستطاع الناس أن يمشوا على هذه الكتب سيرا على الأقدام
# خامسًا:
إن بين كل شهيق وزفير لحظة، قد يجد الإنسان نفسه عندها في يوم الحساب، هذا العالم الغيبي المخيف جدا جدا، فكل ما هو غيب عنا لا نعلم حقيقته فهو مخيف، خاصة إذا جلس الإنسان مع نفسه وقرأ آيات الترهيب وعذاب جهنم.
ولذلك أشعر وأنا أكتب مثل هذه المقالات، أن «القرآن» يخاطب عالمًا آخر، قد يكتشفه رواد الفضاء في يوم ما، على كوكب آخر غير كوكب الأرض، ويومها لن أقول:
«إياك أن تغرس البذرة الإيمانية في أرض النفاق»
محمد السعيد مشتهري