ثانيا: قوله تعالى في سورة المائدة:
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
لقد جاءت هذه الآية، وسط سياق يأمر (أهل الكتاب)، أن يقيموا الدين الذي أنزله الله على رسوله محمد، فتدبر:
“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ (مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ (الْكَافِرِينَ)”.
فهل يعقل أن يقول الله تعالى لرسوله (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، ثم تأتي الآية التالية فتدخلهم الجنة، وتقول (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)؟!
ثالثا: قوله تعالى في سورة الحج:
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”.
لقد جاءت هذه الآية، وسط سياق يبيّن فاعلية مشيئة الله تعالى، في الدنيا والآخرة، وأن الفصل بين أهل الملل المختلفة، سيكون في الآخرة، لذلك زاد في هذا السياق (المجوس والمشركين)، ولم يذكر شرط (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً)، لأن هذا الشرط كان مطلوبا في الدنيا، أما الآخرة فدار حساب وجزاء!!
وهكذا نعلم، أن فهم مثل هذه الآيات، لا يكون (مطلقا) بمعزل عن أصول وقواعد علم (السياق القرآني)، وأن السياق القرآني جاء يأمر جميع الملل والنحل، بالإيمان بالنبي الخاتم، واتباع رسالته، وتحكم بالكفر على كل من لم يستجب لأمر الله تعالى!!
إننا عندما ننطلق من (علم السياق القرآني) نفهم أن قوله تعالى “(مَنْ) آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً”، يخاطب من هذه الطوائف الأربع، (من) آمن منهم بالله والرسول الذي أرسل إليهم: (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فهؤلاء استحقوا هذا الأجر نتيجة إيمانهم بالله ورسوله!!
إن من (أهل الكتاب) من آمن بالله ورسوله محمد، يقول الله تعالى في سورة آل عمران:
“وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) – (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً (أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ”.
تدبر قوله تعالى (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، لتعلم أن هذا الأجر، هو الذي ذكرته الآية [62] من سورة البقرة (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وكان نتيجة إيمانهم، واتباعهم لما أنزله الله تعالى على رسله، وعلى النبي الخاتم محمد، وهذا ما أكده قوله تعالى مخاطبا بني إسرائيل في سورة البقرة:
“فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ (فَقَدْ اهْتَدَوا) – (وَإِنْ تَوَلَّوْا) فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.
أليس قوله تعالى (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا) كافيا للرد على القائلين بأن اتباع النبي الخاتم محمد، ليس شرطا لدخول الجنة؟!
ألم يقرأوا قوله تعالى في سورة الصف:
– “وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ”.
– “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ (وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ) وَاللَّهُ لا يَهْدِي (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)”.
– “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)”.
– “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ”؟!!
ألم يقرأوا قوله تعالى في سورة النساء:
“(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ (فَآمِنُوا) خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ (تَكْفُرُوا) فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً”.
ويواصل د/ محمد شحرور، وضع قواعد دينه الجديد، فيقول:
* “أن التنزيل يضع للإسلام أركاناً ثلاثة هي: 1- الإيمان تسليماً بوجود الله / 2- الإيمان تسليماً باليوم الآخر (ولاحظ معي هنا أن التسليم باليوم الآخر يعني ضمناً التسليم بالبعث)، أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر هي المسلمة التي لا تقبل النقاش عند المسلم، وهذه هي تذكرة الدخول إلى الإسلام / 3- العمل الصالح والإحسان، (انظر فصل الذنوب والسيئات)”.
التعليق: هذه هي أركان (الإسلام)، التي ابتدعها د/ شحرور، كي تدخل جميع الملل الجنة، استنادا إلى الآية [62] من سورة البقرة، التي سبق الحديث عنها: (الإيمان بالله) و(اليوم الآخر)، وكما يدعي، هذا هو الجانب النظري، أما الجانب العملي فهو (العمل الصالح) و(الإحسان)، وبهذا يصبح المرء مسلما، (وإن لم يتبع أي نبي)!!
انظر كيف اختزل أصول الإيمان الخمسة في (الإيمان بالله) و(اليوم الآخر)، واختزل الإسلام في (العمل الصالح) و(الإحسان)، وابتدع مصطلحا جديدا في دين الله اسمه (الإيمان تسليما)!!
إن (الإيمان) هو تصديق (القلب) بمسائل الغيب، أما (التسليم) فهو عمل (الجوارح) في عالم الشهادة، ولا علاقة له بالغيب…، فكيف يكون (الإيمان والتسليم بوجود الله واليوم الآخر)!!
إن عشوائية المنهج الذي يتبعه د/ شحرور في مشروعه الفكري، جعلته يؤمن بالسيرة النبوية، وبالأحاديث المنسوبة إلى النبي، ويتخذهما مرجعا يستند إليهما في كثير من موضوعاته، حتى ولو كانت هذه المرويات موضوعة!!
* فيقول على سبيل المثال: “إذ لا معنى للإيمان النظري دون سلوك عملي ينعكس فيه ويتجلى من خلاله، ومن هنا نفهم قول الرسول الأعظم إن صح: “الخلق عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله”!!
التعليق: انظر إلى قوله (ومن هنا نفهم) – (إن صح)!!
إن من أبجديات البحث العلمي، أن يثبت الباحث أولا، وفي مقدمة بحثه، حجية المصدر الذي يستقي منه معلوماته..، فهل أثبت د/ شحرور أولا حجية (المرويات) التي يستقي منها (السنة النبوية) أو (الأحاديث)…، ومدى صحة نسبتها إلى الله تعالى، قبل أن يستشهد بها في مشروعه الفكري التنويري؟!
إن هذه العشوائية الفكرية جعلته يرتكب جريمة في حق الدين الإلهي، عندما يستشهد (وهو رجل الفكر التنويري)، برواية موضوعة، تطعن في (الوحدانية)، وتعتبر أن لله تعالى عيال: “الخلق عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله”…، ولا مجاز هنا ولا تشبيه ولا استعارة في افتراء الكذب على الله تعالى!!
وعند حديثه عن (الإجرام والمجرمين) يقول:
* “فإذا أردنا تعميق فهمنا للإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في تعريف المصطلح المضاد للإسلام وهو الإجرام، والمصطلح المضاد للمسلمين وهو المجرمين، في قوله تعالى [القلم 35-36]: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) – (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)”.
التعليق: إن (المصطلح المضاد للإسلام) يا د/ شحرور ليس هو الإجرام، و(المصطلح المضاد للمسلمين) يا د/ شحرور ليس هو (المجرمين)!! إن (الإسلام) يقابله (كفر – شرك – نفاق)، و(الإجرام)، و(الكذب)، و(الضلال) …، كلها صفات لملل (الكفر والشرك والنفاق)!!
إن أول ما يلفت النظر، ونحن نتدبر سورة القلم من أولها، قوله تعالى عن المخاطبين في هذه السورة: “فَلا تُطِعْ (الْمُكَذِّبِينَ)”، ثم قوله تعالى: “أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ (كَالْمُجْرِمِينَ)”، ثم قوله تعالى: “أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا (بِشُرَكَائِهِمْ) إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ”!!
إن الله تعالى يخاطب في هذه السورة (المشركين) – (المجرمين) – (المكذبين)، مبينا أنه يستحيل أن يجعل (المسلمين) كهؤلاء، وخص في المقارنة (المجرمين)، لما اتصف به هؤلاء من صفات ذميمة كشف عنها سياق السورة!!
لقد جعل د/ شحرور مرجعيته في موضوع (الإجرام والمجرمين) السيرة النبوية، وأسباب النزول، وعلوم القرآن: المكي والمدني، و(الأحاديث) التي توافق هواه، هكذا هو المنهج الذي أقام عليه دينه الجديد!!
فهل يعقل، أن يكون (التراث الديني)، الذي صنعه البشر بأيديهم، مرجعا أساسا في مشروع مفكر، يدعو إلى قراءة القرآن قراءة حضارية معاصرة!!
ومع أن مسألة انقسام الناس إلى (مؤمن – مسلم)، وكافر، ومشرك، ومنافق، واضحة تماما في السياق القرآني، وخاصة بيان الآيات الأولى من سورة البقرة، إلا أننا نجد أن د/ شحرور يتحدث عن (المجرمين)، بصورة يحاول من خلالها، توظيف الآيات القرآنية لخدمة دينه الجديد، الذي يقوم على (الإيمان بالله) و(اليوم الآخر)، و(العمل الصالح)، و(الإحسان)..، دون اتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام!!
إنه يستحيل أن يدخل الجنة من لم يتب من كفره وشركه، وقد بيّن السياق القرآني ذلك في كثير من الآيات:
“إِلاَّ مَنْ (تَابَ) وَ(آمَنَ) وَ(عَمِلَ صَالِحاً) فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً”!!
إنه قبل الحديث عن (الإيمان بالله) و(اليوم الآخر)، و(العمل الصالح)، و(الإحسان)..، أركان الدين الجديد الذي جاء به د/ شحرور، علينا أن نتحدث عن أولا عن (التوبة) من الكفر والشرك، وأن البرهان العملي على هذه التوبة هو الإيمان بالله وبالنبي الخاتم محمد، وبرسالته، وليست هذه الأركان المعلقة في الهواء هي البرهان!!
الحقيقة، يعجز اللسان، كما يعجز القلم، عن وصف هؤلاء المحسوبين على (الفكر الإسلامي التنويري) بما يستحقونه، ولكن … يكفي أن أقول:
إنهم يُخرجون الناس من النور إلى الظلمات!!
وللموضوع بقية …