ن الذين يتعاملون مع نصوص “الآية القرآنية”، بدون منهج، يحمل أدوات، مستنبطة من ذات النص القرآني، وفي مقدمتها (اللسان العربي)، و(السياق القرآني)، هؤلاء قد جعلوا القرآن (عضين)، مثلهم كـ (الْمُقْتَسِمِينَ)، الذين حرفوا (كلام الله)، يأخذون منه ما يوافق هواهم، ويتركون ما يخالفه، ويزيدون فيه، وبنقصون منه، ولقد وصفهم الله بقوله في سورة الحجر:
“كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ” – “الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ” – “فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ” – “عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”!!
إن د/ محمد شحرور، وغيره من أصحاب القراءات الشاذة للقرآن الحكيم، يتعامل مع (النص الإلهي) تعامله مع (النص البشري)، ويعطي لنفسه الحق في إعادة تنظيم بنية (النص القرآني) المحكم، وابتداع منهجية جديدة في التعامل مع (الكلمة القرآنية)، ليضمن بذلك وضع قواعد وأصول جديدة للدين الإسلامي، تتماشى مع توجهات (الحداثة) و(المعاصرة) التي تسعى الاتفاقيات الدولية إلى ترسيخها في قلوب المسلمين!!
* لقد خلط د/ شحرور بين (الإيمان) و(الإسلام)، فقال: “فإذا ما فتحنا التنزيل الحكيم، وجدناه يكلف (المؤمنين) بهذه الشعائر، وليس (المسلمين)”!! وجاء ببعض الآيات التي تخاطب المؤمنين، تأمرهم بأداء شعيرة من الشعائر، ليثبت أن (الإيمان) هو الالتزام بأحكام الشريعة!!
ومن الآيات التي استدل بها على ذلك، قوله تعالى في سورة الشورى:
“وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ”
التعليق: إن هذه الآية، وغيرها من الآيات التي استدل بها، جاءت في سياق بيان صفات المؤمنين، فالآية التي قبلها تقول: “وَ(الَّذِينَ) يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ”، والآية التي بعدها تقول: “وَ(الَّذِينَ) إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ”!!
إن اسم الموصول (الذين) يشير إلى المؤمنين، الذين من (صفاتهم) أنهم يؤدون (الصلاة والصيام…)، فأداء هذه الشعائر ليس هو (الإيمان)، وإنما هو تفعيل (الإيمان)، على أرض الواقع، وذلك عن طريق (الإسلام) و(التسليم) لأحكام الشريعة الإسلامية!!
إن كل الآيات التي خاطب الله تعالى فيها (الذين آمنوا) جاءت تأمرهم بإثبات صدق إيمانهم بـ (إسلام الوجه لله)، والتسليم لأحكام شريعته!!
وتدبر قوله تعالى في سورة الأعراف:
“قَالَ فِرْعَوْنُ (آمَنتُمْ بِهِ) قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ” – “لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ” – “قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ” – “وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ (آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا) لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)”.
إن (إيمان) سحرة فرعون، قام على أساس ما شاهدوه بأعينهم من (براهين) دالة على صدق (نبوة) موسى، عليه السلام، وهي مسألة قلبية قامت على دلائل وبراهين، تماما كمسألة الإيمان بـ (الوحدانية)، قامت على دلائل الوحدانية في الكون.
وعلى أساس هذا (الإيمان)، أسلم سحرة فرعون وجوهم لله تعالى، أي أصبحوا على استعداد لتحمل كل تبعات وتحديات هذا (الإيمان). لذلك عندما قال لهم فرعون: “لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ” … “قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ”!!
ولكن نلاحظ أن دعاءهم كان أن يثبتهم الله على (الإسلام)، وليس على (الإيمان)، ذلك أن (الإيمان) راسخ في قلوبهم أصلا، ولكنهم سيواجهون على أرض الواقع تحديا صعبا يحتاج منهم إلى الثبات على (إسلام الوجه لله)، لذلك قالوا: “رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا (مُسْلِمِينَ)”!!
* وبعد أن استقطع (كعادته) بعض الآيات من سياقاتها، قال: “ومن هذه الآيات وغيرها كثير، نفهم أن الإسلام هو التسليم بوجود الله، وباليوم الآخر”!!
التعليق: إن جميع الآيات التي استدل بها د/ شحرور على قوانين دينه الجديد، لا علاقة لها (مطلقا) بهذه النتيجة التي توصل إليها في الفقرة السابقة!!
إن (الإسلام) ليس هو (التسليم بوجود الله، وباليوم الآخر)، ذلك أن (التسليم) يكون لشيء موجود في عالم (الشهادة)، والله تعالى، والملائكة، واليوم الآخر…، من عالم الغيب، الذي أمرنا الله تعالى أن (نؤمن) به بقلوبنا، ثم ونحن في عالم الشهادة، نسلم لأحكام شريعته تسليما!!
تدبر قوله تعالى في سورة النساء:
“فَلا وَرَبِّكَ (لا يُؤْمِنُونَ) (حَتَّى) يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)”.
إن (الإيمان)، وهو عمل القلب، وبرهان صدقه هو (إسلام) الجوارح، وتسليمها لأحكام الشريعة، فـ (إيمان) المرء، سابق لإسلامه وتسليمه لأحكام الشريعة!!
لذلك علينا أن نفرق بين الإسلام لـ (الله)، والإسلام بـ (وجود الله)، فلا يوجد مطلقا في كتاب الله، الإسلام بـ (وجود الله)، كما يدعي د/ شحرور بقوله: “نفهم أن الإسلام هو التسليم بوجود الله”!!
إن المرء لن يعلن (إسلامه) و(تسليمه) لأحكام الشريعة الإلهية، إلا بعد أن يكون قد (آمن) أصلا بـ (الله)، بناء على دلائل الوحدانية المشاهدة، وبـ (الملائكة)، الواسطة بين الله و(النبوة)…، وكلها من مسائل الغيب غير المشاهدة، التي محلها (القلب)!!
وتدبر قوله تعالى في سورة آل عمران:
“قُلْ (آمَنَّا بِاللَّهِ) وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) – “وَمَنْ يَبْتَغِ (غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً) فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ”.
إن (الدين الإسلامي) نظام ومنهج لحياة الناس، قائم على إقرارهم وتصديقهم بـ (الوحدانية)، وبأصول الإيمان الخمسة…، فهل يُعقل أن يأتي النظام أولا، ثم بعده يأتي التصديق بـ (الوحدانية)؟!!
* ثم انظر قوله بعد ذلك: “فإذا اقترن هذا التسليم بالإحسان والعمل الصالح، كان صاحبه مسلماً، سواء أكان من (أتباع محمد) الذين آمنوا أو من (أتباع موسى) الذين هادوا أو من (أنصار عيسى) النصارى، أو من (أي ملة أخرى) غير هذه الملل الثلاث كالمجوسية والشيفية والبوذية (الصابئين)”!!
التعليق: لماذا خص د/ شحرور أتباع محمد بـ (الإيمان)؟! ألم يؤمن أيضا أتباع موسى وعيسى؟! إنه يضع قواعد جديدة للدين الإسلامي، ومنها أن يكون (الإيمان) هو الالتزام بأحكام الشريعة، وأن يكون (الإسلام) هو الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح، والإحسان، سواء كان المسلمون من (أتباع محمد) أو من (أتباع موسى) أو من (أنصار عيسى)، أو من (أي ملة أخرى)!!
إن المحور الأساس الذي يستند إليه د/ شحرور، وغيره من الذين يقولون بأن اتباع النبي الخاتم محمد ليس شرطا دخول الجنة، هو قوله تعالى في سورة البقرة:
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
ولكي نفهم هذه الآية، علينا أن نتدبر سياق الآيات المتعلقة بموضوعها، فأقول:
أولا: لقد جاءت آية سورة البقرة، وسط سياق ذم بني إسرائيل، لأنهم قابلوا نعم الله تعالى بالكفر، فاستحقوا الذلة والمسكنة والغضب من الله، فتدبر:
– “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ … ”
– [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى …]
– “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ … ”
– “ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ … “َ
– “وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ … ”
– “فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ”
إن سياق هذه الآيات، يخاطب ذرية بني إسرائيل، المعاصرين لرسول الله محمد، يذكرهم بما فعله آباؤهم برسولهم موسى، ويبيّن لهم أن باب التوبة ما زال مفتوحا، فإن تابوا واتبعوا النبي الخاتم: “فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ”!!
فكيف، وسط هذا التبكيت، وهذا الترهيب…، يبيح الله تعالى لأهل الكتاب، أن يبقوا على دينهم، ولا يتبعوا النبي الخاتم، ولهم الجنة والأجر العظيم: “وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ”!!
وللموضوع بقية ….