** الصحيفة:
إذن فمن كان وراء مسألة “التوثيق” هذه، ومتى ظهرت دعوى “الإجماع”؟!
** دكتور مشتهري:
إن الذين صنعوا المصدر الثانى للتشريع ووثقوا مروياته إلى النبى بعد وفاته (عن طريق نسبتها إلى الصحابة) هم رواة أهل السنة والجماعة!! والذين وثقوا المرويات (عن طريق نسبتها إلى آل البيت) هم رواة آل البيت، وكانوا يفعلون ذلك سرا، خوفا من بطش الأمويين!!
ففي عصر الخلافة الأموية، ظهرت بدعة توثيق (السنة النبوية) علنيا باسم أهل السنة والجماعة، ووظّفت الآيات القرآنية، لإثبات حجية هذه (السنة) واعتبار مروياتها وحيا من الله تعالى إلى رسوله!! ثم جاءت الخلافة العباسية، وسمحت للمحدثين (رسميا) بكتابة هذه الروايات ونشرها فى الكتب، فظهرت أمهات كتب الحديث، التى يعرفها أتباع أهل السنة اليوم!!
ولذلك نلاحظ أن أصح كتب الحديث عند الفرقتين هى التى دُوّنت فى عصر الدولة العباسية «البخارى ت 256هـ– الكلينى ت 329هـ»!! ولن أشغل القارئ الكريم بما كتبته ردا على توظيف أئمة الفرقتين للآيات القرآنية، لإثبات حجية مصادرهم التشريعية، فهذا الموضوع مفصل فى دراسة بعنوان «نحو تأصيل الفكر الإسلامى»، (الجزآن 3،4)، وهى منشورة على موقعى:Www.feqhelquran.com.
** الصحيفة:
إذن برأيك، ما التوصيف الدقيق للنصوص النبوية، ولماذا اعتبروها وحيا إلهيا؟
** دكتور مشتهري:
إن نصوص «السنة النبوية»، التى بين أيدى المسلمين اليوم، ما هى إلا روايات تاريخية، نسبها الرواة إلى النبى، دون إذن من النبى، ولو كانت وحيا إلهيا لحفظها الله تعالى كما حفظ القرآن!!
ولذلك اختلف أئمة السلف حول قطعية ثبوتها عن النبى، وأخيرا واجهوا أنفسهم بالحقيقة، واتفقوا على (ظنية) نسبتها إلى النبى!! فإذا سألناهم: كيف تجعلون ما هو «ظنى الثبوت» عن رسول الله، «وحيا إلهيا»، وتتخذونه مصدرا تشريعيا ثانيا…، فهل هذا معقول، أيها (المسلمون الموحدون)؟!
خرجوا علينا بشبهة واهية، لا يقبلها إلا من لم يعرف الفرق، بين «الدين الإلهى» و«التدين البشرى»!! قالوا: إذا كان القرآن وحده هو الحاوى لنصوص الشريعة الإلهية، إذن فقل لنا: من أين تعلم المسلمون كيفية أداء الصلاة، وهى غير مفصلة فى القرآن؟!
ويؤسفنى أن أقول: إن هؤلاء الذين لا يستطيعون التفرقة بين النص التشريعى الإلهي (المجمل)، وكيفية تفعيل المسلمين لهذا النص (المجمل) بصورة عملية، هؤلاء ليسوا أهلا للحديث معهم، فقد فقدوا آليات التفكر والتعقل والتدبر!!!
إن (كيفية) الأداء العملى، لما (أجمله) النص القرآنى من أحكام، ليست فى ذاتها (نصا) تشريعيا مستقلا عن القرآن، وإنما هى الصورة (العملية) لهذا النص، التي تعلمها المسلمون بالتقليد والمحاكاة، جيلا بعد جيل، نقلا عن صحابة رسول الله، إلى يومنا هذا!!
** الصحيفة:
هل تريد فضيلتك أن تقول إن المسلمين لم يتعملوا الصلاة عن طريق (الأحاديث)؟!!
** دكتور مشتهري:
نعم، لم يحدث هذا مطلقا، أين هؤلاء الذين تعلموا كيفية الصلاة عن طريق رواية (الأحاديث) عليهم؟!!
يا أخي… لقد أمر الله المسلمين بإقام الصلاة، فهذا هو «النص التشريعى المجمل»، ثم بيّن الرسول لصحابته كيفية أداء هذه الصلاة، فهذه هى «الصورة العملية» لهذا “النص التشريعى» المجمل، وهذه الصورة العملية ليست نصا تشريعيا مستقلا عن القرآن، حتى يدعى (المذهبيون)، (الجاهلون)، أنه لولا (السنة النبوية المفتراة) ما تعلم المسلمون الصلاة!!
طيب … إيه رأيك، لو ذهبنا إلى مرويات هذه (السنة النبوية المفتراة) لنتعلم منها كيفية الصلاة، لتركنا أصلا هذه الصلاة، «واحتمال نترك الإسلام كمان»!! عارف ليه؟! لأن كل ما ورد فى «باب الصلاة» فى أمهات كتب الحديث، ما هى إلا أخبار، استفاضت بين الرواة، فنقلوها «منسوبة إلى النبى»، حسب مذاهب الفقهاء المختلفة، ومدارس المحدثين في التصحيح والتضعيف، وارجعوا إلى كتب الفقه المقارن (كبداية المجتهد لابن رشد) لتقفوا على حقيقة هذا الكلام!!
** الصحيفة:
هل تقصد أن هناك خلافات فقهية بشأن الركن الأساسى للإسلام وهو الصلاة؟!
** دكتور مشتهري:
نعم.. ويكفى أن أضرب لك مثالا يبيّن كيف تعامل أئمة السلف مع روايات هذا المصدر التشريعى في (باب الصلاة)!!
نجد فى مسند الإمام أحمد، الذي توفي (241هـ)، أن رواياته بلغت (1749رواية).
وفى جامع الأصول لابن الأثير، الذي توفي (606هـ)، نجد أن روايات الكتب الستة (الموطأ، البخارى، مسلم، أبو داوود، الترمذى، النسائى) بلغت عنده (1140رواية).
أما فى كتاب «كنز العمال» لصاحبه ابن حسام الدين الهندى، الذي توفي (975هـ)، بلغت عدد رواياته (4701رواية)!!
فبعد ملاحظة تاريخ وفاة كل محدث، مقارنة بعدد رواياته، لنا أن نسأل: هل كان المسلمون يعرفون كيف يصلون، قبل عصر تدوين هذه الكتب فى القرن الثالث، والسابع، والعاشر، الهجري؟!
هل توقف المسلمون يوما عن أداء الصلاة، إلى أن ظهرت هذه الكتب وبيّنت لهم كيف يصلون، فصلّوا؟! وهل من ينكر هذه الروايات، التي جاءت في «باب الصلاة» يعتبر كافرا، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة كما يدعي أهل (الجهل)؟! وماذا لو أنكر روايات الرواة كلها؟! “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين”!!
** الصحيفة:
وفق ذلك المنطق، ما السر فى العداوة الصارخة لكل من يمس السنة المروية بالفحص والتحليل وربما الإنكار؟!
** دكتور مشتهري:
هناك تجربة شخصية، أرى من الضرورى أن أذكرها في هذا الحوار، باعتبارها شهادة لا يجب علىّ كتمانها، خصوصا أنها تتعلق بمسألة “إنكار السنة”!!
إن الدراسة التى أشرت إليها سابقا بعنوان “نحو تأصيل الفكر الإسلامى”، كتبتها للرد على من يريدون أن يشاركوا الله تعالى فى حكمه، ويستحلون دماء المخالفين لهم فى المذهب، بدعوى الدفاع عن “السنة النبوية”!!
فى أواخر الثمانينيات قمت بتوزيع هذه الدراسة، وذلك “قبل نشرها”، على بعض علماء الفرق لإبداء الرأى فيها، ومن بينهم فضيلة الشيخ محمد الغزالى، الذي بيّنت له كيف أن هذا المصدر التشريعى يحمل ما يسىء إلى الإسلام، وأن المصائب والشبهات التى يواجهها الإسلام هى بسبب مرويات هذا المصدر، وحماية المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية له!!
ولقد بينت لفضيلته أن ما يحدث فى أفغانستان (كان ذلك وقتها) من فتاوى التخاصم والتكفير، والتفجيرات الانتحارية، والقتل على الهوية، والتمثيل بالجثث، والمطالبة بإعادة فريضة الخلافة والغزو، لأن في إعادتهما الخير الكثير، من المال والنساء.. بيّنت له أن كل هذا الذي يحدث، لا يستمد شرعيته من كتاب الله، وإنما من مرويات هذه (السنة النبوية المفتراة) التي تقوم عليها اجتهادات وفتاوى أمراء وقادة هذه الجماعات المتطرفة!!
وبعد مناقشته في كيف أن القرآن الحكيم يخلو تماما من أى صورة من صور التطرف أو العنف أو الإرهاب، وعد فضيلته أن يؤلف كتابا حول هذا الموضوع، فكان كتابه «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث»، الذى ذكر فى صفحته الأخيرة رأيه في هذه (السنة المفتراة) فقال: إن حديث الآحاد، يتأخر حتما أمام (النص القرآنى)، وأمام (الحقيقة العلمية)، وأمام (الواقع التاريخى)!!
لقد قامت الدنيا ولم تقعد، بسبب قوله “إن حديث الآحاد، يتأخر حتما أمام النص القرآنى…” لماذا؟! لأن السلفيين يعلمون أن كل ما روى عن النبى هو «حديث آحاد»، لا قيمة علمية له أمام النص القرآنى، ولا أمام الحقيقة العلمية، ولا أمام الواقع التاريخى، إذن فماذا تبقى لهم من هذه (السنة النبوية المفتراة)؟! لذلك صعدوا المنابر، وكتبوا الكتب، وكفّروا الشيخ!!
(يتبع)