إننا إذا صورنا عملية سلخ جلد الشاة (بأجهزة حديثة)، وشاهدنا هذا الفيلم بالسرعة البطيئة، سنرى أن هناك جزءا (بين الجلد واللحم) أثناء عملية (الانسلاخ)، لا يمكن أن نسميه جلدا، ولا يمكن أن نسميه لحما، ولكن نستطيع أن نسمي الجزء القريب من الجلد (جلدا)، والجزء القريب من اللحم (لحما)!!
وهذا المثال، هو ما يحدث تماما بالنسبة لانسلاخ النهار من الليل!! فالليل (الظلام) موجود أصلا في الكون (وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ)، ثم جاء النهار (الضياء) فغطاه، ويستحيل فلكيا وعمليا (على الأرض)، أن نرى النهار ينسلخ من الليل (فجأة)!!
إن هناك فترة زمنية بين انسلاخ النهار عند (الغروب)، وإتمام عملية الانسلاخ عند (الغسق)، وهذه الفترة الزمنية، التي تسبق (الغسق) يستحيل أن نسميها نهارا، لأن هذا يستلزم (في المقابل)، أن نسمي ما بعد الفجر (ليلا)، وإلى أن يظهر (النهار) عند شروق الشمس!!
لقد بيّن الله تعالى لنا متى يكون أول النهار (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)، وهذا النهار الذي بيّنه الله تعالى لنا ليس (ضياءً)، لأن (ظلمة) الليل نراها بأعيننا تنسحب تدريجيا، وحتى شروق الشمس!!
إذن فلماذا لا نقبل تعريف الله تعالى للنهار، وأنه ليس هو (الضياء البيّن)؟!
فإذا ذهبنا إلى علم الفلك، فإن هذه الفترة الزمنية بين الفجر وشروق الشمس، هي الضوء المخروطي، الذي أشرنا إليه عند حديثنا عن (الرؤية الفلكية)، ورأس هذه المخروط هو نقطة تبين الخيط الأبيض، عند الفجر وقاعدته عند شروق الشمس!!
وإذا قال الله تعالى بعدها: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، فلماذا لا نطبق نفس القاعدة التي عرّف الله على أساسها النهار، ونقول: إن الليل (في المقابل) ليس هو (الظلام البيّن)، وعلى هذا يكون أول الليل، عند غروب الشمس، كما بيّنه الله تعالى، وعرفه علم الفلك، والسياق القرآني، واللسان العربي؟!
فإذا ذهبنا إلى علم الفلك، فإن هذه الفترة الزمنية بين غروب الشمس وغسق الليل، هي الضوء المخروطي، ولكن (بصورة عكسية)، كما أشرنا إلى ذلك عند حديثنا عن (الرؤية الفلكية)، فقاعدة هذا المخروط الضوئي هي التي عند غروب الشمس، أما رأسه فعند غسق الليل حيث يتلاشى النهار تماما!!
في أوائل الثمانينيات، بدأت في إلقاء محاضرة أسبوعية، أبين فيها مشروعي الفكري، ثم ظهرت بعد فترة، فئة من بين الحضور، تجادل في مسائل، وتثير شبهات، لا تستحق مني مناقشتهم فيها، ومع ذلك كنت أجيب عليها بالأدلة القرآنية.
ولكن الذي أزعجني، هو استجابة كثير من الحضور لهذه الفئة، واتباع ما أثاروه من شبهات، ومنها (مسألة السجود على الذقن في الصلاة)، فكانت هذه هي (القشة التي قسمت ظهر البعير) وجعلتني ألغي هذه المحاضرات،!!
لقد فهموا من هذه المحاضرات، أنني أدعو إلى الاكتفاء بالنص القرآني، والتعامل معه مباشرة، دون منهج، ودون أدوات يحملها هذا المنهج!! ومع أني قد بيّنت لهم كثيرا، أن المحور الأساس لمشروعي الفكري، هو “منظومة التواصل العرفي”، وهي مصدر معرفي خارج حدود القرآن، ويستحيل أن يُفهم القرآن بمعزل عنها، ولكنهم أصروا واستكبروا استكبارا!! لماذا؟!
قالوا: إن الله تعالى يقول “وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً”، إذن السجود يجب أن يكون على الذقن، وليس على (الجبهة)!! وفعلا كانوا يصلون ويضعون الذقن على الأرض، والوجه بالجبهة نحو القبلة، وكنت أقول لهم: يا أهل الخير، هناك فرق بين (للأذقان) و(على الأذقان)، أنتم حرفتم الكلم عن مواضعه، ثم تدعون أنكم (قرآنيون)؟!!
إن هؤلاء (القرآنيين)، قد تتلمذوا على مشروعي الفكري في الثمانينيات، ولكنهم انحرفوا عنه انحرافا كبيرا، ثم جاء المُتطفّلين من بعدهم، فاتبعوهم على انحرافاتهم الفكرية، ومنهم من يتبعهم مئات المعجبين على شبكات التواصل الاجتماعي، لماذا؟! لأنهم يرفعون شعار الاستنارة، والقراءة القرآنية المعاصرة، فأضلوهم ضلالا كبيرا!!
وهكذا هو مسلسل التقليد الأعمى، عند السلفيين، وعند المتطفّلين، سواء بسواء، وستعرفونهم بما ينشرونه من شبهات، قد ذكرت بعضها عند حديثي عن (رابعا: خلاصة القول، في ضوء ما سبق بيانه)، فإذا رأيتم من يتبع هذه الشبهات، فاعلموا أنه من هؤلاء!!
ومازلوا إلى يومنا هذا يفعلون، ويضلون (المساكين) اتباعهم، ولكنهم أذكياء، لا يظهرون مثل هذا المسائل المنحرفة عن صراط الله المستقيم، خوفا من انصراف أتباعهم عنهم، وإنما يُدخلونها في قلوب أتباعهم تدريجيا، حتى إذا قالوا لهم: إن الشمس تشرق من الغرب صدقوهم!!
“أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ” – “وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” – “أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ”