نحو إسلام الرسول

(209) 5/8/2014 (ثانيا: مفهوم الليل والنهار في السياق القرآني)

لقد بدأت هذه الدراسة، عن (آية اختلاف الليل والنهار)، بـ (الرؤية الفلكية)، لسببين:
الأول: لبيان أن مدرسة (تدبر القرآن) لا تفتح أبوابها إلا للعلماء (الربّانيين)، فهم الذين يخشون ربهم (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، ولن يتقولوا على الله بغير علم، ولن يُقحموا أنفسهم فيما ليس لهم به علم، فـ (الإسلام) منظومة (علمية) لا تعرف الجهل وأهله!!
الثاني: أن الخلاف حول تعريف الليل والنهار، أساسه الجهل بآية (الشفق)، التي تظهر في الفترة ما بين غروب الشمس وغسق الليل (الشفق المسائي)، ثم ما بين الفجر وشروق الشمس (الشفق الصباحي)!!
وهذا الجهل، جعلهم يتصورون، أن (درجة الضوء) الصادرة عن الشفق المسائي (أثناء ظاهرة انسلاخ النهار)، هي ضوء النهار!! فإذا سألناهم: إذن فلماذا لم تعتبروا (درجة الظلمة) الصادرة عن الشفق الصباحي (أثناء إيلاج النهار في الليل) عند الفجر، لماذا لم تعتبروها ليلا؟! سكتوا!! لذلك كان يجب أن يقول علماء الفلك كلمتهم عن آية (اختلاف الليل والنهار).
لقد عبر السياق القرآني عن آية (اختلاف الليل والنهار)، بكلمات محكمة متناغمة، تبيّن ظاهرة تداخل النهار مع الليل، في الأفق الشرقي، عند الفجر، وحتى تتلاشى درجات الليل تماما من الأفق مع (شروق الشمس). وكذلك، ظاهرة تداخل الليل مع النهار، في الأفق الغربي، عند غروب الشمس، وحتى تتلاشى درجات ضوء النهار تماما من الأفق عند (غسق الليل).
ومن هذه الكلمات القرآنية المحكمة، المتناغمة، أتحدث عن ظاهرة (الانسلاخ)، وكذلك (الإيلاج)، و(التغشية)، و(التكوير).
1- (الانسلاخ): يقول الله تعالى في سورة يس:
وَآيَةٌ لَهُمْ (اللَّيْلُ) – (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) – فَإِذَا هُمْ (مُظْلِمُونَ) [37]
إن المتدبر لهذه الآية، يعلم أن النهار يكون غاشيا لليل، أي (مغطيا له)، وليس (مزيحا له)، لقوله تعالى: “وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ” – “نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ”، إذن فكل مكان ينسلخ منه النهار يصبح ليلا (بدرجة من درجات الليل)، لماذا؟!
لأن هذا الانسلاخ مرتبط بدوران الأرض أمام الشمس، فأشعة الشمس (النهار) لن تكون في المكان المقابل لها، بنفس درجة استضاءة طرفي هذا المكان، وذلك بالنظر إلى كروية الأرض!!
فإذا تحرك هذا المكان، المقابل لأشعة الشمس، إلى جهة الغروب، فإن شدة استضاءة هذا المكان ستقل تدريجيا، حتى يُظلم تماما عند (غسق الليل): “فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ”!! وسأعرض فيديو في نهاية هذا الفصل، يبين كيف يحدث هذا الانسلاخ.
إن لليل درجات، وللنهار درجات، عرفها العرب بأسمائها، كما يعرفها علماء الفلك اليوم!! لقد عرف العرب أن أول الليل (الشفق)، ويُسمى شفق الغروب (المسائي)، وهو اللون المائل إلى الحمرة، الذي يظهر لحظة غروب الشمس، وعندها صلاة المغرب، وإفطار الصائم.
ولقد أقسم الله بهذا “الشفق”، وهو سبحانه لا يقسم إلا بعظيم، فقال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)، فالـ “الشفق” آية، وعلامة كونية على انسلاخ النهار من الليل، تاركا وراءه الليل للراحة والسكن، وهذا ما بيّنه قوله تعالى بعدها: “اللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ”!!
و(الوسق)، في اللسان العربي، يعني الجمع والضم، و(الليل) يجمع ما كان متفرقا بالنهار، فمع غروب الشمس، وحلول (الشفق)، يأوي الناس إلى بيوتهم (للسكن)، بعد عناء النهار (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً – وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً)، وهذا ما تفعله الدول المتحضرة اليوم!!
كما عرف العرب أن بعد (الشفق) يأتي (الغسق)، وهو آخر نقطة لانسلاخ ضوء النهار من الأفق، وأول نقطة لحلول (ظلمة) الليل، أي (غسق) الليل، وعندها صلاة العشاء. ولو أراد الله تعالى أن يكون الصيام إلى (ظلمة) الليل، لقال تعالى: ثم أتموا الصيام إلى (غسق) الليل، كما قال عز وجل (إلى غسق الليل) عند بيان آخر صلاة من الصلوات الخمس، وهي صلاة العشاء!!
ثم عرفوا أن بعد (الغسق) تأتي العتمة، ثم السدفة، والفحمة…، وكلها أسماء لظواهر وعلامات (فلكية)، يُطلق عليها (بالمعنى العام) اسم (الليل)، وخاصة في سياق بيان (دلائل الوحدانية)، حيث يجب على الإنسان أن ينظر، ويفكر ويتدبر، ما وراء (الكلمة القرآنية) من عطاءات ونعم لا تحصى.
أما عندما يتحدث السياق عن (أحكام الشريعة)، فإن الأمر يختلف!! ذلك أن دلالات أحكام الشريعة قطعية، وهي تتحدث عن الحلال والحرام، عن مصير الإنسان، في الجنة أم في النار!! أما ما نراه من خلاف بين الناس، حول هذه الأحكام، فليس بسبب عدم قطعية الدلالة، فالله تعالى هو القائل: “وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ”، وإنما بسبب هجرهم للقرآن، وعدم تشرب قلوبهم (اللسان العربي) الذي نزل به: “فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ”!!
كما عرف العرب (أسماء النهار)، بدرجاته المختلفة، فعرفوا (الشفق)، ويسمونه بشفق الشروق (الصباحي)، ويعرف بلونه المائل إلى الحمرة، الذي يظهر عند شروق الشمس. كما عرفوا البكور، والصبح، والضحى، والهاجرة، والظهيرة…، وكلها أسماء لظواهر وعلامات (فلكية)، يُطلق عليها (بالمعنى العام) اسم (النهار).
فإذا أراد السياق القرآني أن يخبرنا عن الليل (المظلم)، جاء بـ (مخصص) لبيان ذلك، كقوله تعالى في سورة الإسراء: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ – إِلَى (غَسَقِ اللَّيْلِ)”، فقد قيدت كلمة (غسق)، التي تعني (الظلمة)، المعنى العام لليل، فأصبح المقصود هو الليل (المظلم)!!
وتدبر قوله تعالى في سورة يونس: “كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ (اللَّيْلِ مُظْلِماً)”، والقطع المظلمة من الليل، هي درجات الليل التي بدأت تتمكن منها (الظلمة)!!
ويقول الله تعالى في سورة النازعات: “وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا”، وأغطش أي جعله غاطشا، أي ظلاما، وهذا يعني أن الليل لم يكن مظلما، ثم أصبح مظلما، فلا يعقل أن يكون المعنى (وأظلم ظلامها)!! ولذلك جاء بعدها: “وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا”، وإخراج الضحى يحدث مع ظهور الحافة العلوية لقرص الشمس، عند الشروق، فعندها يصبح ضياء النهار واضحا.
ونفهم من ذلك، أن المساحة الزمنية، ما بين الفجر وشروق الشمس، تسمى نهارا، وإن لم يكتمل (ضياؤه)، وأن ما بين غروب الشمس وغسق الليل يسمى ليلا، وإن لم تكتمل (ظلمته) ولقد بيّن هذا المعنى قوله تعالى في سورة المدثر: “وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ” – “وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ”، وقوله تعالى في سورة التكوير: “وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ” – “وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ”!!
وتدبر قول الله تعالى في سورة الشمس: “وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا” – “وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا” – “وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا” – “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا”. إن الضمير المؤنث في (جَلاَّهَا)، سواء كان يعود إلى الشمس، أو إلى الأرض، فإن تجلية النهار للشمس تكون وقت شروقها، وهي في نفس الوقت تجلية و(إضاءة) للأرض!!
إن (الغشي)، في قوله تعالى: “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا”، هو التغطية، والليل لا يغطي الشمس، وإنما الذي يغطيها نصف الكرة الأرضية المقابل لها، حيث يكون نهارا، والنصف الآخر ليلا!! ونظرا لكروية الأرض، ودورانها أمام الشمس، فإن هذه (التغشية)، تبدأ عند اختفاء الحافة العلوية لقرص الشمس من الأفق الغربي، عند (غروب الشمس)، ثم تأتي (تجلية) النهار، عند ظهور الحافة العلوية لقرص الشمس عند (شروق الشمس). (يتبع)

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى