ورد تكريم العلماء الذين (يخشون) ربهم، في سياق بيان تفاعل دلائل الوحدانية مع منظومة الآيات الكونية [الآيات 9- 28 من سورة فاطر]، ولفت نظر المشركين، المكذبين بالنبي، المعرضين عن “آيته القرآنية”..، إلى بعض الحقائق القرآنية، فقال تعالى:
“وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ” – “إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ” – “وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ” – “وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ” – “وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ” – “وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ”.
إن (العلماء) هم الذين يخشون ربهم، هم أصحاب القلوب الحية، الذين يتحركون (في) الناس على بصيرة، ونور وسكينة، فتدبر: “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ (فِي) النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ (لِلْكَافِرِينَ) مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
إن (العلم) هو الحد فاصل بين الإسلام والكفر: “زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”. إن المسلم هو الذي يقيم إسلامه على فاعلية دلائل الوحدانية في الكون، وهي مسألة (علمية) لا ينفع معها الإيمان الوراثي، ولا الاتباع بغير علم، لأنها تحتاج إلى براهين علمية، لا يصل إليها (العلماء) إلا بتفعيل آليات التفكر والتعقل والتدبر… آليات عمل القلب. أما الكافر، فيقول: “بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ”؟!!
إن الماء النازل من السماء واحد، والثمرات مختلف ألوانها..، والجبال صلبة لا تتأثر بالماء، وجاءت ألوانها مختلفة، بين الأبيض، والأحمر، والسواد الحالك، فمن يُظهر للناس ما في بطون هذه الآيات الكونية من أسرار إلا العلماء؟!
“أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا، وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ”.
وتتنوع ألوان البشر (وأصلهم واحد، آدم وزوجه)، وكذلك تنوع الأحياء الأخرى، فتدبر:
“وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”.
وكتاب الله واحد، وتختلف هدايته للناس باختلاف طبيعة قلوبهم.
“وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ (هُوَ الْحَقُّ) مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ” – “ثُمَّ (أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ”.
وعندما يأتي ذكر (العلماء) الذين يخشون ربهم في سياق هذه المنظومة الكونية، ثم يأتي بعدها ذكر (الكتاب)، واختلاف الناس في تلقي هدايته..، فعلينا أن نتوقف قليلا.
إن الذين ورثوا (كتاب الله) منهم “ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ”، وهو الذي لم يتفاعل مع كتاب الله مطلقا. ومنهم الـ “مُقْتَصِدٌ”، وهو الذي لا يخلو تفاعله من تقصير. أما الـ “سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ”، فهو الذي تفاعل مع كتاب الله على (علم) فجاء تفاعله على أحسن وجه.
إن الورثة الحقيقيين لميراث النبوة هم (العلماء) الذين يخشون ربهم. إن حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة إعمال آليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر..، في سبر أغوار آيات الآفاق والأنفس، والتعرّف على السنن الإلهية، وكيف تعمل في هذا الوجود.
إن المسلمين لا يرثون عن آبائهم غير كتاب الله، باعتباره (المرجعية الإلهية) الوحيدة الواجبة الاتباع. وهؤلاء يجب أن يكونوا على درجة من (العلم) تمكنهم من التعامل مع هذا الكتاب، باعتباره (الآية) الدالة على صدق (النبي) في بلاغه عن الله.
إن (النبوة) علم، و(النبي) عالم، يتلقى علمه عن الله تعالى. والمسلمون في عصر الرسالة، يقلّدون (النبي) فيما يفعله أمامهم، وإن لم يعلموا علته، لأنهم آمنوا بأنه (نبي) يوحى إليه، وكفى!!
إن هؤلاء الذين قلّدوا (النبي)، تقليدا أعمى (بالمحاكاة)، وقال لهم: افعلوا كذا ففعلوا..، هؤلاء هم الذين نقلت عنهم الأجيال كيفية أداء الصلاة (بالتقليد والمحاكاة) حتى وصلت إلينا اليوم، ويأخذها عنا أطفالنا أيضا (بالتقليد والمحاكاة)، ودليلنا الوحيد على وجوب أداء هذه الكيفية هو (التقليد والمحاكاة) نقلا عن المسلمين الأُول!!
إن جملة (تقليد النبي) لا يصح مطلقا إطلاقها إلا على من عاصروا (النبي)، أو على من نقلوا عنه كيفية أداء ما أجمله (النص القرآني) من أحكام (بالتقليد والمحاكاة)، والتي حفظها الله تعالى (عبر منظومة التواصل المعرفي) على مر العصور.
أقول هذا، لأن هناك (من أدعياء العلم) من يعتبرون الذين (يقلدون) الأفعال التي نسبها الرواة إلى (النبي) باسم (السنة)، يعتبرونهم يقلّدون (النبي) بغير علم، وعلى هذا يصفونهم بصفات لا تليق بمقام (النبوة)، وهذا (جهل) وإساءة للنبي ولمن عاصروه!!
إن هؤلاء المقلدين بغير علم، هم في حقيقة الأمر، لا يقلّدون (النبي)، لأنهم ليسوا هم الذين كانوا معه، ونقلوا عنه، وإنما هم يقلدون (رواة) الفرق والمذاهب المختلفة، فيما نقلوه عن (النبي)، ولا وجه للمقارنة!!
“وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ (عِلْمٌ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ (مَسْئُولاً)”