نحو إسلام الرسول

(1673) 7/1/2021 «عطاء الكُرْه في القرآن الكريم»

من ثمار «موسوعة الفقه القرآني المعاصر» التي لم تتم.
لقد بدأت التفكير في إنشاء هذه الموسوعة مع بداية الثمانينيات، وانطلقت فكرتها من قول الله تعالى «العنكبوت / ٥١»:
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ – أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ – يُتْلَى عَلَيْهِمْ – إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً – وَذِكْرَى – لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
بهدف بيان:
١- عطاء «الكلمة» في السياق القرآني.
٢- عطاء «الجملة» في السياق القرآني.
٣- عطاء «السورة» في السياق القرآني.
وحتى يتحقق هذا الهدف كان لابد من إقامة مؤسسة تضم علماء من كافة التخصصات، الأمر الذي لم يحدث لوقوف فتنة الآبائية المذهبية عقبة أمام تحقيقه، فقد رفض معظم من عرضت عليهم فكرة الموسوعة المشاركة فيها، والسبب:
أني لا أعتمد في قاعدة البيانات إلا على «القرآن» فقط، وهم يريدون «القرآن والسُنّة».
وكان على من يريد المشاركة في هذا العمل الموسوعي أن يُقدم نموذجًا لعطاء أي كلمة قرآنية يختارها، للوقوف على مدى التزامه بشروط وأهداف الموسوعة.
ومن بين النماذج التي قُدمت، دراسة للأستاذة الدكتورة سعاد كوريم أستاذة الدراسات القرآنية – جامعة مولاي إسماعيل – المغرب، بعنوان:
«عطاء الكُرْه في القرآن الكريم – عطاء الكلمة وعطاء الآيات»
والذي هو موضوع هذا المقال، وقد قسمت الدراسة الآيات التي وردت فيها مادة «ك – ر – هـ» إلى خمس مجموعات، سأذكر منها مجموعة واحدة مع شيء من التصرف والاختصار.
# أولًا:
تتحد لفظتا «كُرْه» و«كَرْه» من نفس الحروف، مع ضم الحرف الأول في الأولى «كُـ»، وتعني أن تعمل بـ «مشقة»، وفتحه في الثانية «كَـ»، وتعني أن تعمل «كارهًا»، فإذا ذهبنا إلى السياق القرآني، نجد المعنى يزداد وضوحًا:
فقد وردت كلمة «كُرْه» بمعنى «المشقة» ثلاث مرات مرتبطة بـ «القتال – الحمل – الوضع» على النحو التالي:
١- «البقرة / ٢١٦»: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ»
٢- «التوبة / ٨١»: «وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
٣- «الأحقاف / ١٥»: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا»
ومع ما تتحمله النفس من «مشقة» في الحالات الثلاث تجعلها تكره الإقبال عليها، إلا أننا نجد في هذه الحالات فوائد ودورًا إيجابيًا في حياة الإنسان، الأمر الذي نفهم منه أن «الكُرْه»، بضم الكاف، هو «المشقة» التي تقبلها النفس عن طواعية.
والسؤال:
هل «المنافقون» المشار إليهم سابقا في قوله تعالى «التوبة / ٨١»:
* «وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
كانت أنفسهم تكره مشقة «الجهاد» عن طواعية كـ «المؤمنين» ابتغاء ثواب الآخرة، حتى يكون تعريف «الكُرْه» صحيحًا؟!
والجواب يحمله السياق نفسه، فتدبر:
* «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ»:
– «وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ»
– «وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ»
– «قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ»
إن «المنافقين» يستحيل أن يُضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولذلك «فرحوا» بالتخلف عن رسول الله، ولم تكن كراهيتهم للجهاد بسبب مشقة مرغوبة، كـ «المؤمنين»، وإنما غير مرغوبة على الإطلاق.
ولذلك جئنا بهذه الآية «التوبة / ٨١» المتعلقة بالمنافقين في سياق الحديث عن «الكُرْه»، لبيان أنه عندما يدخل «النفاق القلب» يتحول «الكُرْه» إلى «كَرْه».
# ثانيًا:
ثم نأتي إلى لفظة «كَرْه» والتي تعني تكليف الإنسان بعمل شيء كارهًا له «رغم أنفه»، وفيما يلي الآيات التي حملت المقابلة بين الطوع والكره:
١- «فصلت / ١١»:
* «فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين»
٢- «آل عمران / ٨٣»:
* «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً»
٣- «الرعد / ١٥»:
* «وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا»
٤- «التوبة / ٥٣»:
* «قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ»
نفهم من هذه المقابلة بين الطوع والكره، أن الأفعال المذكورة في هذه الآيات:
«الإتيان – الإسلام – السجود – الإنفاق»
يمكن أن تتم بشكل طوعي موافق لإرادة الإنسان، وبشكل قسري مناقض لتلك الإرادة «كَرْها».
والسؤال:
وماذا عن الذين لم يسلموا لله ولم يسجدوا له لا طوعًا ولا كَرْهًا، والله تعالى يقول في الآيتين السابقتين:
* «وَلَهُ أَسْلَمَ – مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ – طَوْعاً وَكَرْهاً»
* «وَلِلّهِ يَسْجُدُ – مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ – طَوْعًا وَكَرْهًا»؟!
إن لفظ «أَسْلَمَ»، وكذلك «سَجَدَ»، ليس المقصود بهما في هذا السياق ما يتعلق بـ «سنة الاختيار» التي خلق الله الناس عليها، وإنما المقصود:
استسلام وخضوع كل ذرة في هذا الكون لمنظومة «السنن الكونية» التي يستحيل أن يخرج عن قوانينها شيء في السماوات والأرض.
فعجيب أمر هذا الإنسان:
* «يَا أَيُّهَا الإِنْسَان»:
– «مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ – الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ – فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ»؟!
ثم بعد ذلك تعبد غير اللّه؟!
# ثالثًا:
ولقد وردت لفظة «الكَره» مرة واحدة دون مقابلتها بـ «الطوع» في قول الله تعالى «النساء / ١٩»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ»:
– «لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا»
والسبب:
لقد كان الورثة في الجاهلية يرثون وبشكل قهري كل ما كان يملكه الميت من أموال وممتلكات، ويرثون امرأته أيضا، باعتبارها من المتاع الذي يورث، فنزلت أحكام القرآن ترد للمرأة اعتبارها وكرامتها.
والسؤال:
هل لفظة «كَرْهًا» تعني أن التحريم يكون في حالة وراثة النساء «كَرْهًا»، أما إذا حدث ذلك بـ «رضاها» فلا مانع، بقرينة أن الآية لم تنه عن وراثتهن طوعا، بالإضافة إلى أن لفظ «الكَرْه» لم يقترن بلفظ «الطوع» مثلما اقترنا في الآيات السابقة؟!
والجواب:
١- إن التعامل مع القرآن بمعزل عن «منهجية علمية» تحمل أدوات مستنبطة من آياته، جريمة كبرى لا يرتكبها إلا «المجرمون»:
* «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ – مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»؟!
ومن الأدوات المستنبطة من القرآن، حسب التوجه «نحو إسلام الرسول»، آليات التفكر والتعقل والتدبر … آليات عمل القلب، التي يستحيل معها أن تقبل امرأة عاقلة أن تورث طوعا!!
٢- فإذا تدبرنا سياق الآيات السابقة، التي جمعت بين الطوع والكره، نجد أن موضوعاتها يُتصور فيها إمكان أن يحدث الفعل طوعًا أو كرهًا، حتى المنافق يُظهر للناس أنه ينفق طوعًا والحقيقة أنه ينفق «كَرْهًا»:
ولذلك ذكر سياق الآية لفظي «الطوع» و«الكَرْه» من باب المبالغة الدالة على عدم قبول نفقته حتى لو أنفقها «طوعًا» لأن قضية المنافق أكبر بكثير من مسألة الإنفاق قد بينتها الآيتان «التوبة / ٥٣-٥٤»:
* «قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً – لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ – إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ»
ثم تدبر:
* «وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ»:
* «إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ – وَبِرَسُولِهِ – وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى – وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ»
أما الآية «النساء / ١٩» التي تحرم وراثة النساء كرها، فإنها لم تذكر «الطوع» لاستحالة أن يقبلن ذلك إلا كَرْها.
# رابعًا:
ذكرنا فيما سبق أن المراد بلفظة «الكُرْه» بيان أن الفعل تم بإرادة ذاتية، رغم ما فيه من مشقة وآلام، وأن لفظة «الكَرْه» تأتي لبيان أن الفعل تم جبرًا دون إرادة ذاتية.
١- هناك آيات تبيّن أن من القلوب من تكره الحق الذي أنزله الله على رسله، كما حدث مع قوم نوح عليه السلام «هود / ٢٨»:
* «قَالَ يَا قَوْمِ – أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ – وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ – فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ – أَنُلْزِمُكُمُوهَا – وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»
٢- وهناك من ارتد عن الحق من بعد أن تبيّن له الهدى «محمد / ٢٥-٢٨»:
* «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى – الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ – وَأَمْلَى لَهُمْ»
لقد جعلهم الشيطان يتحالفون مع القلوب التي تكره الحق في بعض الأمور:
* «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ – سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ – وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ»
* «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ»
فاحذر يا «مسلم» من «الاتباع الشيطاني» الكاشف لحقيقة ما في قلبك، المحبط لأعمالك كلها، وتدبر ماذا قال الله بعد ذلك:
* «ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ – وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ – فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ»
٣- ثم يزداد الإغواء الإبليسي الشيطاني، فيجعلون لله ما يكرهون «النحل / ٦٢»:
* «وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ – وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى – لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ – وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ»
٤- وهل يمكن أن يكره المؤمنون اتباع الحق؟!
نعم «الأنفال / ٥»:
* «كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ – وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ»
٥- وهل يمكن أن يكره الرجل زوجه، وبماذا ينصحه الله تعالى؟!
يقول الله تعالى «النساء / ١٩»:
* «فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ – فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً – وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً»
فالموضوع المكروه قد لا يكون فيه ما يحببنا إليه في الوقت الراهن، بل قد يبدو لنا أنه شر محض، ولكن قد يتحول في المستقبل ويكون فيه الخير الكثير.
٦- وإن الغيبة التي يحبها الناس، هي في صورتها الحقيقية شيء تكرهه النفس «بالطبع قبل الشرع» وتأباه، وهذا ما بينته الآية «الحجرات / ١٢» فتدبر لأنها فيروس أخطر من «كورونا»:
* «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ – أَن يَأْكُلَ – لَحْمَ أَخِيهِ – مَيْتاً – فَكَرِهْتُمُوهُ»؟!
ولاحظ الجمع بين «الحب» و«الكره» في سياق واحد، فلماذا تُحبّون أكل لحم أخيكم؟!
# خامسًا:
هكذا يجب أن يكون التعامل مع «القرآن»:
* وما أشرك «الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً».
* وما ألحد «الملحدون» في مدلولات كلمات القرآن.
* وما انحرف «القرآنيّون» عن الفهم الواعي لأحكام القرآن، فافتروا على الله الكذب، فريق يقول لا صلاة حركية، وفريق يقول فرض الله صلاتين، وثالث فرض الله ثلاث صلوات.
ما أشرك وألحد وانحرف كل هؤلاء إلا بسبب:
– «المنهجية العشوائية»
– «العك الديني»
– «الهوس العقلي»
وغير ذلك من الإغواء الإبليسي الذي يدفعهم إلى جهنم دفعًا.
واللافت للنظر والغريب حقا:
أن هناك المئات من الذين لا يُظهرون تفاعلهم، سواء مع المقالات أو من تعقيبي على تعليقات الأصدقاء، مع أني قلت وكررت مرارا أن الهدف من التوجه «نحو إسلام الرسول» تخريج «علماء» لا أن يظل التلميذ تلميذا حتى يتوفاه الله:
الأمر الذي لن يتحقق إلا بالتفاعل مع المقالات، وإبداء الرأي، ومناقشة مسائل الخلاف، وبذل الجهد الشخصي لتعلم لغة القرآن العربية، ومراجعة المقالات السابقة، وقراءة الكتب التي على الموقع وإعادة مشاهدة فيديوهات «المشكلة والمنهج» أكثر من مرة.
محمد السعيد مشتهري
أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى