يظن كثير من المسلمين، أن هذه الجملة القرآنية، دليل على أن في الإسلام ما يُعرف بعلماء الدين، وهم الطائفة المتخصصة في العلوم الدينية، دون التخصصات العلمية الأخرى، وأنهم وحدهم هم المتحدثون الرسميون باسم الإسلام!!
والحقيقة، أن (الطائفة) (المتفقهة) في الدين، في قوله تعالى: “فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ”، هي (الطائفة) (النافرة)، التي خرجت للجهاد في سبيل الله، وليست هي (الطائفة) (المتفقهة) القاعدة في البيوت، وذلك للأسباب التالية:
أولا: إن مادة (الفقه)، استخدمها السياق القرآني، في الحديث عما يخفي علمُه، أو تحتاج إلى جهد علمي (أو تقني) للوقوف عليه، كقوله تعالى:
“فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً” – “وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ” – “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ”.
ولم يستخدم القرآن (مطلقا) مادة (الفقه) للتعبير عن أئمة، أو علماء، أو فقهاء، الفرق والمذاهب المختلفة!! فعلى أي أساس شرعي، يُسمح لهؤلاء بحمل هذه الألقاب؟!
ثانيا: إن مادة (الدين) استخدمت في السياق القرآني بمعنى (عام) وهو (النظام -الشريعة)، وهذا المعنى (العام) الذي يُخصصه السياق، كقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: “مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ”، أي في نظام وشريعة الملك. وكقوله تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ”، أي إن النظام الحاكم لحياة الناس هو شريعة الإسلام.
ثالثا: إن قوله تعالى: “لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ”، في الجملة القرآنية المشار إليها سابقا، يفرض علينا أن ننظر في سياق الآيات، قبلها وبعدها، لنتعرف على الدين (النظام – الشريعة) الذي يتحدث عنه السياق، والمطلوب من المخاطبين أن يتفقهوا فيه.
إننا إذا تدبرنا الآيات، من الآية (38): “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ (انفِرُوا) فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ…”، إلى الآية (122): “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ (لِيَنفِرُوا) كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ…”، وما بعدها: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (قَاتِلُوا) الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً…”، علمنا أن (الدين) هنا هو (النظام) الحاكم (لشريعة) الحرب، والذي لا غنى عن تفقهه لأي قائد عسكري، ولا علاقة له بفقهاء المذاهب الفقهية.
رابعا: إذا كانت الطائفة المتفقهة في الدين هي (القاعدة) في البيوت، وهي التي ستنذر الطائفة (النافرة) عندما ترجع، إذن فنحن في حاجة (كي يستقيم المعنى) إلى تقدير محذوف من السياق وهو: “فلولا نفرت طائفة، و(أقامت طائفة) ليتفقهوا في الدين”.
ومن بدهيات المنطق، أن ما لا يحتاج إلى تقدير، أولى بالقبول، مما يحتاج إلى تقدير، لذلك كانت الطائفة المتفقهة في الدين هي (النافرة)، وليست (القاعدة) في البيوت!!
خامسا: على فرض أن هناك طائفة، يجب أن تنذر أخرى، لكانت هي الطائفة (النافرة)، لأنها هي التي خرجت (مع رسول الله) للقتال، وعايشت الخوف والحذر بصورة عملية، ووقفت على فتنة وتحديات المعركة!! أما الطائفة (القاعدة) لتتفقه في الدين، فمع من ستتفقه، ورسول الله قد خرج مع الطائفة (النافرة)؟!!
سادسا: إن مسائل الترغيب والترهيب، الوعد والوعيد، والإنذار والتحذير…، كلها من أصول (الملة)، التي لا يصح إسلام المرء إلا وهي من مكونات إيمانه، التي يقوم عليها التزامه بأحكام (الشريعة). وعلى هذا الأساس فإن الطائفة (النافرة)، ليست في حاجة أصلا إلى فقه الطائفة (القاعدة)، لأنهم ما خرجوا للجهاد إلا وهم مسلمون، مؤمنون، يخافون الله، ويحذرون من عذاب الآخرة!!
سابعا: علمنا أن (الفقه) له علاقة بـ (النفر)، وأن (الدين) له علاقة بأنظمة وقوانين (النفر)، ومن هذه الأنظمة (نظام الاستطلاع)، وعلى هذا الأساس نفهم الآية على النحو التالي:
“وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [لا ينفر المؤمنون كلهم مرة واحدة] فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [فلولا نفر (أولا) من كل فرقة من الفرق المحاربة طائفة] لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [ليستطلعوا أحوال العدو، ويجمعوا عنه المعلومات الكافية] وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [ويرجعون بهذه المعلومات إلى قادتهم] لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [فيضعون الخطط، ويوفرون الإمكانات، الخاصة بمواجهة هذا العدو].
ثامنا: إن الإسلام دين العلم والعلماء، والمسلم (هو) الذي عرف ربه، والتزم بشريعته، على أساس (علمي)، وليس (وراثي): “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ”.
إن كل مسلم عالم فقيه، في مسألة من المسائل، التي درسها، وفقهها، حسب أصول البحث العلمي، بالإضافة إلى تخصصه المهني.
“أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ” – “وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا (يَخْشَى اللَّهَ) (مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”