حسب أصول البحث العلمي، فإنه من الضروري أن يكتب الباحث في مقدمة بحثه ما يُعرف بـ «تحرير المصطلح» وتحديد مفهومه للمصطلحات التي يحتويها بحثه.
فمثلا: إذا كان يكتب عن القرآن عليه أن يقول ماذا يقصد بـ «القرآن»، وإذا كان عن السُنّة النبوية عليه أن يقول ماذا يقصد بـ «السُنّة النبوية».
ولذلك عندما قررت أن أكتب عن «السُنّة النبوية» كتابًا، جعلت عنوانه:
«السُنّة النبوية حقيقة قرآنية – قبل ظهور الفرق الإسلامية»
وتعمدت أن أضيف جملة «قبل ظهور الفرق الإسلامية» لإخراج تراث الفرق الإسلامية الديني كله، بتفسيره وحديثه وفقهه، من مفهوم «السُنّة النبوية» الذي أقصده.
ولقد كان من تقدير الأستاذ الدكتور «عبد الصبور شاهين» للمادة العلمية التي حملها الكتاب، أن قال في مقدمته:
«إن الجهد الذي بذله الدكتور محمد السعيد مشتهري في تأليف هذا الكتاب، طبقا لفكرته عن تفعيل النص القرآني، لم يسبق أن بذل مثله مؤلف صاحب فكرة بناءة كهذه الفكرة، وإنه ليستحق أن يهنأ بما حالفه من توفيق الله وعونه.
ولا ريب أن فكرته قد فتحت بابًا واسعا للدعاة، يثري عطاءهم، ويجدد نداءهم لجماهير المسلمين، أن يعودوا إلى لواء الوحدة الإسلامية، يستظلون به ويشربون تعاليمه، وينبذون الفرقة التي مزقتهم على مر التاريخ».
# أولًا:
إذا سألنا أئمة الفرق الإسلامية كلهم، ماذا يقصدون بـ «السُنّة النبوية»، وجدناهم متفقين على هذا التقسيم لمعناها:
١- السُنّة النبوية عند المحدِّثين:
«ما أُثِرَ عن النَّبي من قولٍ، أو فِعْلٍ، أو تقريرٍ، أو صِفةٍ خَلْقِيَّةٍ، أو سِيرةٍ، سواء كان قبل البعثة أو بعدها»
وهذا هو معنى «الحديث النبوي» عندهم، فهم لا يُفرّقون بين السنة والحديث عند تعريفهما.
٢- السُنّة النبوية عند الأصوليين:
«ما صدر عن النَّبي غير القرآن، من قولٍ أو فِعلٍ أو تقريرٍ، مِمَّا يصلح أن يكون دليلاً لِحُكمٍ شرعي»
لقد اهتموا بما يُثبت الأحكام باعتبار أن رسول الله له طاعة منفصلة عن طاعة الله، استنادًا إلى قول الله تعالى:
* «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»
٣- السُنّة النبوية عند الفقهاء:
«كلُّ ما ثبت عن النبي، ولم يكن فرضًا أو واجبًا؛ كالمندوب والمُستحب والتَّطوع والنَّفل»
فـ «السُنّة» عند الفقهاء يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، فهي تقابل «الفرض» الذي يُعاقب تاركه.
* أقول:
(أ): وحسب أصول البحث العلمي، وتحرير المصطلحات من كل لبس لحق بها، إذا أردنا أن نفهم ماذا يعني أئمة الفرق الإسلامية بقولهم:
«ما أُثِرَ عن النَّبي – ما صدر عن النَّبي – كلُّ ما ثبت عن النبي»
نجدهم جميعًا يستقون «ما أثر وما صدر وما ثبت» من مرويات الرواة التي دُوّنت بعد وفاة النبي بقرن ونصف قرن من الزمن على أقل تقدير!!
(ب): وحسب أصول البحث العلمي، وتحرير المصطلحات من كل لبس لحق بها، فإن الذي أسقط حجية «السُنّة النبوية» بالمفهوم السابق ذكره، هو ما اصطلح أئمة الحديث على تسميته بـ «السند الروائي».
ذلك أن هذا «السند الروائي» هو خير شاهد على أن هذه «الأحاديث» لم تُدوّن إلا في عصر آخر الرواة المذكورين في «السند»، ولو أنها دُوّنت في حياة الرسول ما كان لها سند مطلقا إلا «قال رسول الله» مباشرة بدون «عنعنة»:
أي بدون رواية فلان عن فلان عن فلان عن فلان إلى أن نصل إلى آخر سلسلة الرواة حيث نعلم متى دوّنت هذه الرواية.
(ج): وبناء على ما سبق، فإن بدعة وجود مصدر نبوي للتشريع مع كتاب الله، باسم «السُنّة النبوية»، لا يتبعها إلا «الجاهل» الذي لا يتبع إلا ما وجد عليه آباءه، أو «المنافق» الذي يعلم ما سبق بيانه ويسعد به، ويستخدمه لإبعاد الناس عن الكتاب الوحيد الذي أمرهم الله اتباعه فقال تعالى:
* «كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ»:
– «فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ»
– «لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»
– «اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ»
– «وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ»
– «قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ»
# ثانيًا:
فماذا كانت ثمار شجرة «المنهجية الدينية العشوائية» التي عاش المسلمون في ظلها قرونًا من الزمن تحت رعاية «فتنة الآبائية» التي حملت لهم «السُنّة النبوية المذهبية»؟!
١- شرك «التفرق في الدين»، الذي نهى الله تعالى المسلمين أن يقعوا فيه، فقال تعالى:
* «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ – وَاتَّقُوهُ – وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ»
* «وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»
* «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً»
* «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
٢- رفع «الإغواء الشيطاني» في حياة المسلمين إلى حده الأقصى، فلم يكتف بـ «شرك التفرق في الدين» بين الفرق الإسلامية، وراح يُفرق كل فرقة إلى مذاهب وجماعات جهادية وتوجهات سلفية وقرآنية وتنويرية.
بشرط: أن تكون «السُنّة النبوية المذهبية» هي الشغل الشاغل لكل هذه الطوائف، سواء كان ذلك بتقديسها، أو بنقد بعض متونها، أو بنقضها كلها، المهم أن يظلوا مشغولين بها ليل نهار مع هجرهم لتدبر القرآن، ليتحقق وعد إبليس:
* «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ – إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»
٣- تركيز «الإغواء الشيطاني» على كلمة «العقل»، وقول أدعياء التنوير العقلي إن الله خلق «العقل» ليكون الإنسان مسؤولًا عن تدينه، دون وصاية من أحد.
فإذا سألتهم: فأين يوجد هذا «العقل» في جسم الإنسان؟!
وقفوا مذهولين … لا ملة ولا دين!!
إن الذين يقيمون فهمهم لـ «دين الإسلام»، الذي حملته نصوص «الآية القرآنية العقلية»، على أساس وجود شيء في جسم الإنسان اسمه «العقل» هؤلاء ضلّوا الطريق إلى الفهم الواعي لـ «دين الإسلام» وأضلّوا غيرهم، والسبب: «الإغواء الشيطاني».
منذ خلق الله تعالى بني آدم، و«القلب» الذي هو مستودع العلوم والمعارف والثقافات، يعمل بآليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر … إلى آخر الآليات التي أُسَمّيها في توجهي نحو إسلام الرسول بـ «آليات عمل القلب».
إن هذا «القلب» هو الذي «يتعقل» وهو الذي «يفقه»، فتدبر قول الله تعالى «الحج / ٤٦»:
* «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ»:
– «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا»
– «أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا»
– «فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ»
– «وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»
وتدبر قول الله تعالى «الأعراف / ١٧٩»:
* «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ»:
– «لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا»
– «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا»
– «وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا»
– «أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ – أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»
وإن «آليات عمل القلب» منظومة متكاملة مترابطة تعمل كلها في أقل من الثانية، ولا يشعر بعملها الإنسان، الذي يظن أنه يتعقل بـ «عقله» والحقيقة أنه يتعقل بآليات كثيرة لا مجال للحديث عن كيفية تناغمها وتفاعلها كي يصل الإنسان إلى هذا «التعقل».
# ثالثًا:
وإذا كان ما سبق بيانه هو من ثمار شجرة المنهجية الدينية العشوائية، فما الذي يُميّز «المنهجية الدينية العلمية» عن «المنهجية الدينية العشوائية» التي أوصلت المسلمين إلى هذه المعيشة الضنك، التي لم يعد يُعرف لهم فيها ملة ولا دين؟!
١- إن «المنهجية العلمية»، بوجه عام، تقوم أولًا على الدراسة العلمية الجادة للأصول والقواعد التي يقوم عليها الموضوع المطلوب بحثه.
– أما «المنهجية العشوائية» فتقوم على دراسة فروع الموضوع المراد بحثه، ثم تتفرع إلى موضوعات أخرى لا علاقة لها بالموضوع الأصلي.
٢- مثال «المنهجية الدينية العلمية»:
عندما نريد أن ندرس «دين الإسلام» علينا أن ننطلق من القاعدة الأساس التي قام عليها هذا الدين وهي البرهان على أن هذا الدين «حق» وأن الله هو الذي أمر الناس جميعًا باتباعه، وليس بين أيدي الناس اليوم غير هذا القرآن الذي حمل «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، عليه السلام.
– مثال «المنهجية الدينية العشوائية»:
إنها تنطلق من قاعدة «الإغواء الشيطاني» المنشغلة بـ «التراث الديني» وما حمله من «سُنّة نبوية» مطلوب تقديسها أو نقدها أو حرقها، حسب التوجه الديني لكل طائفة، وانظر حولك:
(أ): إلى الآلاف الذين يحضرون محاضرة فلان الذي يُسْلِم على يديه في كل محاضرة أعاجم لا يعلمون شيئًا عن لغة القرآن، ولا أقرّوا بصدق «الآية الإلهية العقلية» التي يحملها، ونراه يحفظ القرآن والأحاديث عن ظهر قلب.
(ب): إلى الآلاف الذين يحضرون الدورات القرآنية، ويطلب منهم القائم على التدريب أن يُصَلّوا على النبي في اليوم مئة مرة على الأقل، ويبيح زواج المسلم باليهودية والنصرانية على مذهب أئمة السلف، وما ورد في مرويات «السُنّة النبوية».
(ج): إلى هذا الشاب الوسيم الذي يشع طاقة تجعل الآلاف يتبعونه، حتى أصبح نجم الساعة وحديثها، وهو يدافع عن «السُنّة النبوية» من وجهة نظر فرقة «أهل السنة والجماعة»، ويهاجم القرآنيّين الذين ينكرونها، وهو يعترف أنه «شافعي» المذهب!!
فـ «السلفية السُنّية المذهبية» قادمة لتخدع الناس بـ «ثوبها الجديد» الظاهري، القديم جدًا جدًا في باطنه.
# رابعًا:
ومن ثمار شجرة المنهجية الدينية العشوائية، التي يقوم برعايتها إبليس بنفسه، جهل المسلمين بلغة القرآن العربية التي بها يتحقق «البيان» المراد من قول الله تعالى:
* «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ – إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ»
أي باللغة التي ينطق بها لسان قومه، لماذا؟!
* «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»
أي ليفهم قوم الرسول رسالة الله وما حملته من أحكام الشريعة الإلهية التي على أساس الالتزام بها، أو عدم الالتزام بها، يكون الهدى أو الضلال:
* «فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ – وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ – وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
كيف يسلك المسلمون طريق الهدى وهم يجهلون علوم اللغة التي نزل بها القرآن، والتي أشير إلى قطرات منها في دروس لغة القرآن العربية؟!
ولماذا يسعد المسلمون بتعليم أولادهم تعليمًا أجنبيًا، فإذا سألنا الوالدين: أين التربية القرآنية لأولادكم، قالا: لا يوجد وقت، فالـ «٢٤ ساعة» لا تكفي لمتابعة مناهج الأولاد الدراسية وألعابهم الإلكترونية؟!
* لذلك قلت وأقول:
إن المسلمين يُسلّمون أنفسهم وأولادهم لخزنة جهنم وهم سعداء، ولكنهم لا يشعرون، ولماذا لا يشعرون؟!
لأن عذاب جهنم من الغيب غير المشاهد، فتعالوا نفترض أن شخصًا جاء وأخذ أولاد المسلمين وأحرقهم أمام أعينهم، هل هذا العمل الإجرامي يسعدهم؟!
إنهم في حقيقة الأمر يفعلون في أولادكم نفس هذا العمل الإجرامي وهم لا يشعرون، لأن إبليس زيّن لهم معيشتهم الدينية حتى أصبحوا لا يعلمون عن أحكام القرآن غير الصلوات الخمس!!
وحتى الصلوات الخمس يسعد بها إبليس وهو ينظر إليهم وهم يقولون «الله أكبر»، وهو يعلم أنه «هو الأكبر» الحاكم لمعيشتهم ومستقبل أولادكم، وليس الله تعالى.
فانتبهوا أيها «المسلمون»:
إن معيشتكم في حقيقة الأمر، وعلى أرض الواقع، تسير على هدي «إبليس»، وبرهان ذلك:
هجر القرآن – وهجر لغة القرآن – وهجر علم السياق – وهجر تربية الأولاد التربية القرآنية العاصمة لهم من الكفر والإلحاد والنفاق، وتسليمهم لإبليس لتحشروا جميعًا معه يوم القيامة:
* «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ»:
– «فَاتَّبَعُوهُ – إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ»
* «وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ»:
– «إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخرةِ»
– «مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ»
– «وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ»
* وتذكروا:
١- أن الله تعالى لن يقبل إيمانًا ولا إسلامًا من أحد، إلا إذا دخل في «دين الإسلام» من باب الإقرار العلمي بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، والقائمة بين الناس إلى يوم الدين.
٢- أنه بدون «المنهجية الدينية العلمية» التي تحمل أدوات مستنبطة من ذات النص القرآني، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني.
فإن «المنهجية الدينية العشوائية» ستكون هي الحاكمة على حياة المسلمين، برعاية «إبليس» بنفسه، الذي سيعمل جاهدًا على أن تخترق شبهات الملحدين قلوبهم.
٣- أن مقالات هذه الصفحة تتحدث عن «ما يجب أن تكون» عليه حياة المسلمين كما أمرهم الله في القرآن، فإذا وجدت فيها غير ما أمر الله فأفدنا بعلمك.
٤- أما فيما يتعلق بـ «ما هو كائن» في حياة المسلمين اليوم، فإن المسلم هو الذي يتحمل مسؤوليته، لقول الله تعالى:
* «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري