في الحقيقة، وكما سبق أن بينت ذلك في الدروس الماضية، أني لا أعرض مسائل اللغة العربية، لغة القرآن، على سبيل الحصر، وإنما هي مجرد أمثلة وإشارات يهتدي بهديها «الربانيّون» الذين قال الله تعالى فيهم:
* «مَا كَانَ لِبَشَرٍ:
– أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
– ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ
– كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ
– وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ
– بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
– وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ»
فلا تعلم ولا تعليم ولا دراسة للقرآن، بدون الأدوات المستنبطة من ذات النص القرآني، وفي مقدمتها:
«علوم اللغة العربية – علم السياق – منظومة التواصل المعرفي»
# أولًا:
إن موضوع «لولا» يدخل ضمن أدوات الشرط «غير الجازمة»، ولذلك فهو موضوع كبير وفروعه كثيرة، وباختصار:
١- إن كلمة «لولا» تأتي عند امتناع شيء، لوجود شيء، كقول الله تعالى:
* «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا – لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ»
وقول الله تعالى:
* «فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»
٢- تنقسم «لولا» إلى قسمين من حيث دخولها على الكلام:
(أ): لولا الامتناعية: تدخل على الأسماء.
(ب): لولا التحضيضية: تدخل على الأفعال.
٣- والذي يهمنا هو «لولا الامتناعية»، ومنها:
(أ): قول الله تعالى:
* «فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ»
(ب): قول الله تعالى:
«وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ»
(ج): قول الله تعالى:
* «وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً»
(د): قول الله تعالى:
* «وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ»
(هـ): قول الله تعالى:
* «وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللّهُ»
(و): قول الله تعالى:
* «لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»
(ز): قول الله تعالى:
* «وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»
(ح): قول الله تعالى:
* «وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ»
(ط): قول الله تعالى:
* «وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»
(ي): قول الله تعالى:
* «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ»
# ثانيًا:
قال المفسرون:
طالما أن «لولا» حرف امتناع لوجود، إذن فبوجود البرهان:
* «لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ»
امتنع الهم:
* «وَهَمَّ بِهَا»
أي أنهم يفصلون بين:
«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» ثم يستكملون القراءة «وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ».
والسبب الذي دعاهم إلى خرق قواعد اللغة العربية، وأن «لولا» لها الصدارة، أي لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، هو أنهم أرادوا تنزيه يوسف، عليه السلام، عن أي شعور داخلي بـ «الهم»، فجعلوا ما قبل «لولا» مؤثرًا فيما بعدها!!
لذلك كان من الضروري أن نتعرف على موقع «الهم» فيما يُسمى بـ «مراتب القصد».
# ثالثًا:
مراتب القصد خمس:
١- هاجسٌ: ومضة تمر على القلب سريعًا.
٢- خاطر: إذا استقر الهاجس في القلب فترة.
٣- حديث القلب: عندما يبدأ القلب التفكير في هذا الخاطر ويتجاذب أطرافه.
٤- الهم: عندما يتحول حديث القلب إلى إرادة الفعل.
٥- عزم: عندما تستجيب الجوارح للهم وتتحرك للفعل.
وكل هذه المراتب والمراحل السابقة، لا يؤاخذ الله تعالى عليها المرء، إلا عند «العزم» على الفعل، لقول الله تعالى:
* «لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ – وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ – وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ»
– «بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ»: لأنها لم تتحول إلى عزم وعمل.
– «بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ»: لأن كسب القلوب هو ما تقوم الجوارح بتنفيذه.
# رابعًا:
موقف يوسف، عليه السلام، من مسألة «الهم»:
ولا شك أن الذي جعل يوسف عليه السلام يتوقف عند مرحلة «الهم» ويتراجع، ولا ينتقل إلى «العزم»، أنه استحضر مقام الخشية والخوف من الله تعالى:
* «لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ»
هذا المقام الذي من دخله كان آمنا، لأن الله تعالى يصرف:
* «عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ»
والسبب:
* «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ»
نعم: «الْمُخْلَصِينَ»: أي الذين لا يستطيع إبليس الاقتراب منهم، لأنه الذي قال لله تعالى:
* «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي:
– لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ
– وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
– إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»
# خامسًا:
إن براءة يوسف، عليه السلام، من أي صورة من صور «العزم»، أي تحرك الجوارح نحو ارتكاب الفاحشة، قد شهد بها الله تعالى، وشهد بها إبليس، وشهدت بها امرأة العزيز حيث قالت:
* «وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ»
فهل تعلمون معنى دخول الفاء على «اسْتَعْصَمَ» لتصبح «فَاسْتَعْصَمَ»؟!
أي أن امرأة العزيز وجدت يوسف يعتصم بحصن يستحيل اختراقه، وهو أسلوب مبالغة لبيان عصمته لنفسه من الزلل، بقرينة دخول السين والتاء، لتصبح من العصمة بمعنى المنع.
كما شهدت النسوة ببراءة يوسف:
* «قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ»
تدبر: «مِن سُوءٍ»، الذي ينفي نفيًا قطعيًا تحرك جارحة من جوارح يوسف يفهم منها إرادة التحرك نحو ارتكاب الفاحشة.
إذن، فلم يحدث من يوسف، عليه السلام، أن «عزم»، أو أي تحرك لجوارحه، بأي فعل مع امرأة العزيز.
وظلت مسألة المراودة:
* «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ»
فترة زمنية، ثم جاءت مرحلة «الهم النفسي» الذي لم يتحول إلى «عزم» بعد:
* «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا»
هذا «الهم» النفسي الذي كان بالنسبة ليوسف صراعًا وفتنةً وابتلاءً كبيرًا، وكان بالنسبة لامرأة العزيز «عزمًا» وإصرارًا على إيقاع يوسف في الفاحشة.
هنا، أسرع يوسف نحو الباب لاتقاء شر «عزمها» وإصرارها، فإذا بها تجري وراءه كأنهما في سباق جري:
* «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ:
– وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ
– وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
– قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً
– إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
# سادسًا:
لقد جاءت «لولا» في سياق قصة «الهم»، لتثبت الجانب البشري في يوسف، وأنه مخلوق بمشاعر وأحاسيس يملك مفاتيح ضبطها بتقوى الله تعالى وخشيته، فيؤيده الله وينصره.
ولم تأت «لولا» في السياق لتثبت أن يوسف من جنس الملائكة، خُلق مجردًا من المشاعر والأحاسيس، كما أراد المفسرون أن يثبتوا ذلك، ولكن الإشكالية التي أعطوها ظهورهم هي:
إذا كان يوسف بهذه الصفة الملائكية المجردة من المشاعر والأحاسيس، لماذا قال الله تعالى:
* «لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ»؟!
إنهم يريدون بتفسيرهم هذا، وبإعراضهم عن بلاغة ورود «لولا» في هذا السياق، أن يقولوا:
إنه لولا هذا البرهان:
«الذي اختلفوا حوله ولم يصلوا فيه إلى أي نتيجة منطقية»
لارتكب يوسف الفاحشة مع امرأة العزيز!!
يعني كما يقولون في المثل:
«جاء يكحلها عماها»
* وتذكر:
١- أن الله تعالى لن يقبل إيمانًا ولا إسلامًا من امرئ لم يدخل في «دين الإسلام» من الباب الذي دخل منه الناس في عصر التنزيل، باب الإقرار العلمي بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، القائمة بين الناس إلى يوم الدين.
٢- أنه بدون منهجية علمية تحمل أدوات مستنبطة من القرآن، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني، لا أمل أن يفهم القرآن الذين يجهلون هذه المنهجية، ولذلك يكونون صيدًا ثمينًا بين أنياب الملحدين.
٣- أن مقالات هذه الصفحة تتحدث عن «ما يجب أن تكون» عليه حياة المسلمين، فإذا وجدت في هذه المقالات غير الذي أمر الله به في القرآن، فأفدنا بعلمك.
٤- أما «ما هو كائن» في حياة المسلمين اليوم، فيتعلق بمسؤولية كل فرد الدينية، لقول الله تعالى:
* «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري