نحو إسلام الرسول

(1427) 12/5/2020 لغة القرآن: الدرس «١٨» «حرف {الواو} وحرف {أو} وبلاغة السياق القرآني»

نستكمل ما بيّناه في درس أمس «١٧»، من استحالة فهم آيات القرآن، والوقوف على أحكامها، بمعزل عن علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني، هذه العلوم التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي» للمسلمين على مر العصور.

ثم يخرج علينا الملحدون الجُهّال، الذين أضفت إلى جهلهم صفة «الغباء»، بعد أن تأكد لي غباؤهم، ويقولون:

إن القرآن لم يذكر مطلقا لفظ «اللغة» وإنما ذكر «اللسان»، فقال تعالى «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ» ولم يقل «بلغة عربية مبينة».

ومع أني قمت بالرد على هذه الشبهة الطفولية الجاهلة في عشرات المنشورات، ومنها سلسلة باسم «فقه الناطق والمنطوق»، أسأل الملحدين المسلمين، الذين لم يحملوا من الإسلام إلا اسمه، فأقول:

أيها الملحد المسلم العربي:

ما اسم الكلام الذي تعلمته من والديك في طفولتك، وفي مراحل التعليم المختلفة، وأصبح لسانك ينطق به عند تعاملك مع الناس، وتكتب به وتقرأ به؟!

سيقول: إنه كلام عربي.

نقول: وهناك كلام انجليزي، وفرنساوي، وألماني، وهندي … والله تعالى يقول إن من آياته «اخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ»، أي اختلاف «الكلام» الذي تنطق به ألسنتكم، وليس المقصود اختلاف «الألسن» ذاتها، الأمر الذي يكذبه الواقع.

* أقول:

لقد كان من الصعب على الشعوب، من لدن آدم عليه السلام، أن يُعبّر كل شعب عن الكلام الذي ينطق به لسانه للآخرين ويقول لهم كل هذه الجملة:

«نحن ينطق لساننا بكلام عربي»

وآخر يقول: «نحن ينطق لساننا بكلام انجليزي»

من أجل ذلك اصطلحت الشعوب على كلمة واحدة تعني عن كل هذه الجملة، وهي «اللغة – language»، فهذا لغته عربية، وآخر لغته انجليزية … وهكذا.

فإذا سألت الملحد:

وأنت في المدرسة، بماذا كان يُسمّى الدرس الذي تعلمت منه نطق حروف الهجاء العربية، وكيف تنطق بكلماتها، وكيف تكوّن جملة مفيدة … سيقول لك:
إنه «درس اللغة العربية»، وليس «درس اللسان العربي».

أَفَلاَ تُبْصِرُونَ – أَفَلاَ تَعْقِلُونَ – أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ

# أولًا:

تعالوا أولًا، وقبل أن نجيب على السؤال:

هل أباح الله للمسلم الزواج بأربع نساء أم بتسع؟!

أن نستكمل بعض الإشارات البيانية، التي تتميز بها الأساليب القرآنية، ومن ذلك ما يُسمى بـ «التحول والالتفات»:

يقول الله تعالى «يونس / ٢٢-٢٣»:

* «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ:

– حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ

– وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا

– جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ

– وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ

– دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

– لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ»

الشبهة:

لماذا انتقل الكلام من ضمير المخاطب «كُنْتُمْ» إلى ضمير الغائب «بِهِمْ ـ فَرِحُوا» ولم يلتزم بتوحيد الضمائر فيكون:

– «حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ – وَجَرَيْنَ (بِكُمْ) – بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ – وَ(فَرِحْتُم) بِهَا – جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ …»؟!

الجواب:

لقد بدأت الآية ببيان نعمة تسيير الفلك في البحر على الناس جميعًا، «المؤمنين والكافرين»، ثم تحوّل الضمير من الخطاب «كُنْتُمْ» إلى الغيبة «بِهِمْ» لبيان أن الحديث بعد ذلك سيكون عن «الكافرين» فقط، الذين:

بعد أن غابت الفلك عن الأنظار، وكانوا سعداء بالريح الطيبة التي تحرك الفلك «وَفَرِحُوا بِهَا»، فإذا بريح عاصف تواجه الفلك «جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ» والموج حولهم من كل مكان «وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ».

ثم يستمر الخطاب بضمير الغيبة ويقول الله تعالى:

«فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»

والسبب:

أن الخطاب في أول الآية كان للمؤمنين والكافرين:

* «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ – حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ»

ولما كان المؤمنون لن يفعلوا مثل ما فعل الكافرون من كفر بنعمة النجاة، ظل ضمير الغيبة على حاله «فَلَمَّا أَنجَاهُمْ»، ولم يقل «فَلَمَّا أَنجَاكُمْ» لأن الحديث عن الكافرين وحدهم بقرينة:

«إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»

ولأنه يستحيل أن يصف الله المؤمنين بهذه الصفات.

ثم يتحول الخطاب ليتناغم مع أول السياق الذي خاطب الله فيه للناس جميعا، فقال تعالى:

* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ – إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم – مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا – ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ – فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»

# ثانيًا:

حرف الجر، وقول الله تعالى «الأنعام / ١٦٤»:

* «قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ:

– وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا

– وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

– ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»

لقد تعلق الكسب بحرف الاستعلاء على «إِلاَّ عَلَيْهَا».

فإذا ذهبنا إلى قول الله تعالى «البقرة / ٢٨٦»:

* «لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا:

– لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»

نجد أن الكسب تعلق مرة بـ «اللام» ومرة بـ «على»، فهل في هذا تناقض بسبب أن البشر هم الذين كتبوا القرآن؟!

الجواب:

لقد جاء كسب الخير في آية البقرة مقترنًا بحرف الملك اللام «لَهَا مَا كَسَبَتْ»، لأن ثواب الخير محفوظ لصاحبه وأصبح يملكه.

أما اقتران اكتساب الشر بحرف الاستعلاء على «وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»، فذلك لأن صاحب الشر يحمل أوزاره على كتفيه.

فإذا ذهبنا إلى آية الأنعام، واقتران فعل الكسب بحرف الاستعلاء على «وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا»، نجد أنها تقرر حقيقة إيمانية وهي أن ما تكسبه النفس لا يعود إلا عليها، وقد جاء بيان ذلك بعدها مباشرة بقوله تعالى:

* «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»

# ثالثًا:

ادعاء أن القرآن أثبت جنون النبي محمد، بدليل قال الله تعالى «الأعراف / ١٨٤-١٨٥»:

* «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا – مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ – إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ – وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ – وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُم»

فيلحدون في معنى الآية ويقولون:

«هل نسوا ما بصاحبهم من جنة، كما نسوا أن يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض»؟!

فقد اعتبروا أن «ما» في الآية الأولى «مَا بِصَاحِبِهِمْ» على أنها موصولة بمعنى «الذي»، ليصبح المعنى:

«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا {الذي} بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ»؟!

والصحيح الذي لا يعلمه «الملحدون» ويعلمه أهل اللغة العربية، أن «مَا» نافية، أي أن المعنى:

«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا {أنه ليس} بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ»؟!

فإذا ذهبنا إلى الآية الثانية:

* «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»

فإن الاستفهام «أَوَلَمْ» استفهام إنكاري، أي يُنكر عليهم أنهم لم يتفكروا في خلق السماوات والأرض، كما أنكر عليهم في الآية الأولى اتهامهم للنبي، وأنهم لو تفكروا لعلموا أن ليس به من جِنَّة.

والسؤال:

هل يُعقل أن يصطفي الله تعالى رسولًا، ثم بعد ذلك يقول إن رسوله قد أصابه «جِنَّة»؟!

ولو تدبر الملحد سياق الآية، لعلم أن الله تعالى الذي قال «مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ» هو الذي قال عن صاحبهم «إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ»

فكيف يجتمع الضِّدَّان؟!

# رابعًا:

عمل حرف «الواو وأو» في سياق قول الله تعالى «النساء / ٣»:

* «فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»

يقولون:

إن العطف بالواو، في هذا السياق، يدل على الجمع، وعليه فإن الآية تُبيح الزواج بـ «٢ + ٣ + ٤» = ٩ نساء.

الجواب:

لقد خاطب الله تعالى العرب بما كانت تنطق به ألسنتهم من أساليب بيانية بلاغية، لا توجد داخل القرآن مدرسة لتعليمها، وإنما يتعلمها الناس من مراجع اللغة العربية وعلومها، الموجودة خارج القرآن، ومنها مسألة جمع الأعداد «الأصلية» و«المعدولة».

تنقسم الأعداد إلى:

١- الأعداد الأصول:

وهي التي يُضم بعضه إلى بعض ويُجمع:

«١» – «٢» – «٣» – «٤» … إلى آخره.

والجمع: ١ + ٢ + ٣ + ٤ = ١٠.

٢- الأعداد المعدولة:

وهي التي تحمل في ذاتها صفة «الازدواجية»، فهي مستقله بحالها ولا تجمع إذا ضُمّت، فنقول:

«أحاد» – «ثناء» – «ثلاث» – «رباع»

وسُمّيت «معدولة» لتدل على ازدواجها:

«واحدًا واحدًا» – «اثنين اثنين» – «ثلاث ثلاث» – «أربع أربع».

ويمنع عدلها هذا من أن تقوم مقام أصولها «١» ـ «٢»، وعليه تعالوا نفهم قول الله تعالى «النساء / ٣»:

* «مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»

فصفة «مَثْنَى …» قائمة بذاتها، وموقعها الإعرابي «حال من النساء»، أي حال كونهن «مَثْنَى – وَثُلَاثَ – وَرُبَاعَ»، أي إباحة التعدد على أي واحدة من هذه الصور، فقط لا غير.

أما ما ورد في قول الله تعالى «فاطر / ١»:

«جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا – أُولِي أَجْنِحَةٍ – مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»
فقد جاء «مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ» صفة لـ «الأجنحة»، فهناك ملك بجناحين، وآخر بثلاثة … وهكذا.

ولا يصح أن نستخدم كلمة «أو»، في «النساء / ٣»، ونقول:

إن للرجل أن يتزوج «اثنين – أو ثلاث – أو أربع».

وذلك لأن على الرجل في حالة دخول «أو» يصبح عليه من البداية أن يفاضل بين:

– أن يتزوج «اثنين»، ويحرم عليه إضافة «ثالثة».

– أن يتزوج «ثلاث» ويحرم عليه إضافة «رابعة».

وليس هذا هو المعنى المقصود من الآية، ذلك أن الآية جاءت تبيح للرجل التعدد بأكثر من امرأة، في أي وقت شاء يضيف زوجا إلى أزواجه، وبحد أقصى أربع.

* وتذكر:

١- أن الله تعالى لن يقبل إيمانًا ولا إسلامًا من امرئ لم يدخل في «دين الإسلام» من الباب الذي دخل منه الناس في عصر التنزيل، باب الإقرار العلمي بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، القائمة بين الناس إلى يوم الدين.

٢- أنه بدون منهجية علمية تحمل أدوات مستنبطة من القرآن، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني، لا أمل أن يفهم القرآن الذين يجهلون هذه المنهجية، ولذلك يكونون صيدًا ثمينًا بين أنياب الملحدين.

٣- أن مقالات هذه الصفحة تتحدث عن «ما يجب أن تكون» عليه حياة المسلمين، فإذا وجدت في هذه المقالات غير الذي أمر الله به في القرآن، فأفدنا بعلمك.

٤- أما «ما هو كائن» في حياة المسلمين اليوم، فيتعلق بمسؤولية كل فرد الدينية، لقول الله تعالى:

* «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى