إن انتقال زمن الفعل من الماضي إلى المضارع والعكس، أو من الماضي إلى الأمر والعكس، له مقاصده البيانية البلاغية التي تنطلق من وصف الله تعالى لكتابه الخاتم بقوله:
* «الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»
وقد يسأل سائل سؤالًا يتعلق بقول الله تعالى «الأعراف / ١٧٠»:
* «وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ»
لماذا لم يلتزم سياق الآية بمنهجية واحدة في مطابقة زمن الأفعال، وجاء بفعل الإقامة في الزمن الماضي وكان يجب أن يكون في الزمن المضارع، وتكون الآية هكذا:
«وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ – وَيُقِيمُونَ – الصَّلاةَ»
خاصة وأن جملة «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» وردت كثيرًا في السياق القرآني؟!
# أولًا:
ينقسم زمن الفعل إلى قسمين:
١- «الزمن الصرفي»:
وهو معنى الفعل وهو خارج سياق أي جملة.
٢- «الزمن النحوي أو السياقي»:
وهو معنى الفعل في سياق جملة.
وهنا فإن زمن الفعل يُعْرف من القرائن اللفظية والمعنوية الموجودة في سياق الجملة.
مثال: فعل «أتى»:
الذي يدل بصيغته «الصرفية»، أي المنفردة، على شيء مضى وانقضى زمنه.
فإذا وجدنا أن هذا الفعل قد جاء في سياق قول الله تعالى «النحل / ١»:
* «أَتَىَ – أَمْرُ اللّهِ – فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ»
فإن صيغته «الصرفية»، أي المنفردة، التي تعبر عن شيء مضى، تصبح في هذا السياق «النحوي المركب» دالة على «الاستقبال».
– وقرينة ذلك:
«فلا تستعجلوه»: الدالة على أن «أمر الله» لم يقع بعد.
ولو كان المقصود من الإتيان بالصيغة الصرفية «أَتَى» التعبير عن المضارع أو المستقبل، لقال الله تعالى:
«سيأتي أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ»
– والبلاغة هنا:
في الجمع بين الدلالتين:
«الصرفية المفردة + النحوية المركبة»
بهدف التأكيد على وقوع «أمر الله» لا محالة «فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ»، لذلك جاء بـ «أتَىَ» الدالة بصيغتها «الصرفية» على الماضي، ليقول للناس: اعتبروا أن «أمر الله» قد جاء يقينًا.
– والحكمة:
أن ينتبه الناس، عند تفاعلهم مع نصوص «الآية القرآنية العقلية»، إلى أساليبها البيانية البلاغية، للوقوف على حكمة تحول «أمر الله» من الماضي إلى المستقبل في سياق واحد.
والسؤال:
وهل يعلم «الملحدون» في أحكام القرآن، هذه الأساليب القرآنية البيانية البلاغية، وهم يجهلون أصلًا علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني؟!
من أجل ذلك، بدأ صاحب البوست المرفق كلامه يتحدى علماء اللغة العربية أن يجدوا مخرجًا لمسألة لغوية لا تمثل مشكلة إلا لأمثاله، الذين يجهلون علوم اللغة العربية، ومع ذلك يفترون على الله الكذب، هؤلاء الذي قال الله تعالى فيهم:
* «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً:
– الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
– وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
– أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ
– فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
– فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً»
# ثانيًا:
يستخدم الفعل المضارع للدلالة على حدث مضى وانقضى:
وهنا يكون المقصود استحضار صورة حدث مضي، وكأنه أمر مشاهد بارز للعيان في الحاضر.
١- يقول الله تعالى «فاطر / ٩»:
* «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ ميِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ»
نلاحظ هنا مجيء الفعل المضارع «فَتُثِيرُ» على خلاف الماضي:
«أَرْسَلَ – فَسُقْنَاهُ – فَأَحْيَيْنَا»
مع أن السياق يقتضي المطابقة الزمنية، أي أن تجرى الأفعال الواردة فيه على نسق واحد.
ولكن من بلاغة الأساليب القرآنية أنها تستخدم الزمنين في سياق واحد، أحدهما يقتضي مضيه «أَرْسَلَ – فَسُقْنَاهُ – فَأَحْيَيْنَا» والآخر يقتضي استحضاره «فَتُثِيرُ».
٢- يقول الله تعالى «البقرة / ٨٧»:
* «أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ»
وهنا جاء بالفعل الماضي «كَذَّبْتُمْ» ثم بالفعل المضارع «تَقْتُلُونَ»، وكان مقتضى السياق، وفق المطابقة الزمنية بين الأفعال، أن يكون:
* «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً قَتَلْتُم»
خاصة وأن السياق يتحدث عن أمر حدث في الزمن الماضي، من تكذيب اليهود للأنبياء وقتلهم؟!
– الحكمة:
لقد تحول الزمن من الماضي «كَذَّبْتُمْ» إلى المضارع «تَقْتُلُونَ»، لأن قتل الأنبياء أمر لا يُتَصَوّر فعله، فجاء بالزمن المضارع لاستحضاره في النفوس ولتهتز له القلوب.
# ثالثا:
يستخدم الفعل المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
وذلك لإفادة التجدد والحدوث، وأن الحدث مستمر ولم يمض.
١- يقول الله تعالى «الرعد / ٢٨»:
* «الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»
وهنا نلاحظ مجيء الفعل المضارع «تَطْمَئِنُّ» للدلالة على تجدد الاطمئنان واستمراره، ذلك أنه لو جاء «واطْمَأَنَت قُلُوبُهُم» لأفاد انتهاء طمأنينة القلب، أما فعل «تَطْمَئِنُّ» فيفيد دلالة الزمن في الماضي والحاضر والاستقبال.
أي أن قلوبهم قد آمنت واطمأنت بذكر الله منذ الزمن الماضي، وما تزال تطمئن في الحال والاستقبال.
٢- ويقول الله تعالى «الحج / ٣١»:
* «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ»
وهنا نلاحظ أن التحول كان من الفعل الماضي «خَرَّ» إلى المضارع «فَتَخْطَفُهُ» أو «تَهْوِي»، ولم يأت الزمن على نمط واحد فيكون:
«خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَخَطَفَتْهُ الطَّيْرُ أَوْ هَوَتْ بِهِ الرِّيحُ»
ذلك أن حدوث الخرور من «المشرك» أمر لا محالة في تحققه، مع بيان سرعة الخرور والسقوط بعنف، حسب ما أفاد به معنى الفعل «خَرّ».
ثم تحول الزمن إلى المضارع «فَتَخْطَفُهُ – تَهْوِي» لاستحضار مشهد الحدث نفسه «خطف الطير للمشرك» وكأنه يقع الآن، ثم يأتي حرف «فِي» الوارد في جملة «فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ».
ولم يقل «إلىَ مَكَانٍ سَحِيقٍ»، لبيان وتصوير مشهد السقوط «فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ» لا قرار له.
# رابعًا:
يقول الله تعالى «المائدة / ١١٦-١١٧»:
* «وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ»:
– «وَإِذْ قَالَ اللّهُ»: لإفادة اليقين بأن هذا الموقف قد حدث فعلا.
* «أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ»
– وهل لا يعلم الله تعالى هل قال عيسى أم لم يقل؟!
إنه أسلوب «توبيخ» لأتباع عيسى الذين انحرفوا عن رسالته، وفي نفس الوقت «إنكار» أن يكون عيسى قد قال هذا، فتدبر:
* «قَالَ سُبْحَانَكَ – مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ»
– «مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ»: أي ما ينبغي لي أن أقول، وليس بمعنى الفعل المضارع «الكينونة».
* «إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ – تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي – وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ – إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
ـ ثم يتحول الفعل إلى صيغة الماضي، فتدبر:
– مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ
– أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
– وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ
– فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
– وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»
* وتذكر:
١- أن الله تعالى لن يقبل إيمانًا ولا إسلامًا من امرئ لم يدخل في «دين الإسلام» من الباب الذي دخل منه الناس في عصر التنزيل، باب الإقرار العلمي بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، القائمة بين الناس إلى يوم الدين.
٢- أنه بدون منهجية علمية تحمل أدوات مستنبطة من القرآن، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني، لا أمل أن يفهم القرآن الذين يجهلون هذه المنهجية، ولذلك يكونون صيدًا ثمينًا بين أنياب الملحدين.
٣- أن مقالات هذه الصفحة تتحدث عن «ما يجب أن تكون» عليه حياة المسلمين، فإذا وجدت في هذه المقالات غير الذي أمر الله به في القرآن، فأفدنا بعلمك.
٤- أما «ما هو كائن» في حياة المسلمين اليوم، فيتعلق بمسؤولية كل فرد الدينية، لقول الله تعالى:
* «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري