عندما تطمس «إشكاليات التراث الديني» بصيرة التنويريّين
إن وراء الضنك الذي أصاب معايش الناس بسبب فيروس كورونا، «شخصًا واحدًا فقط» ضيّع اقتصاد العالم.
وإن وراء الإلحاد في أحكام القرآن، الذي أصاب قلوب المسلمين، «شخصًا واحدًا فقط» ضيّع الفهم الواعي لأحكام القرآن، وهذا الشخص أنا أعرفه وحاورته قبل أن تولد قرآنية «أحمد ماهر»، وقبل أن يولد إلحاد «محمد شحرور».
# أولًا:
لقد كان تفرق المسلمين إلى فرق ومذاهب عقدية وفقهية سببًا رئيسًا لإنزال غضب الله عليهم، حتى وصلوا إلى هذه المعيشة الضنك التي لا لون لها ولا رائحة.
لقد كانت «إشكاليات التراث الديني» الذي بدأ تدوينه مذهبيًا بعد وفاة النبي بقرنين من الزمن، سببًا في ظهور أصحاب بدعة «تنقية التراث الديني» للفرقة التي ولدوا فيها، لأنهم لا يعلمون غيره.
* وهؤلاء لم يدخلوا في «دين الإسلام» الذي أمر الله اتباعه، وظلوا على ملة الفِرْقَة التي ولدوا فيها، ولكن بقراءة جديدة تنويرية معاصرة، وانظروا إلى نجوم التنوير والإسلام الحر وإشعال مصباح العقل، لتقفوا على مدى صحة ما أقول.
وكانت «إشكاليات التراث الديني» أيضا سببًا في ظهور من ينادون بحرق التراث الديني، طبعا تراث الفرقة التي ولدوا فيها، وهم أصحاب بدعة «القرآن وكفى»، الذين يَدّعون أن استنباط أحكام القرآن لا يكون إلا من داخله، لأن الله يقول في وصف القرآن:
* «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ – تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ»
* «وَكُلَّ شَيْءٍ – فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً»
* «اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ – وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ»
فإذا جاء طفل يحفظ القرآن، وقال لأبيه القرآني، الذي يردد دائما على مسامعه الآيات السابقة:
فأين «يَا أَبَتِ» بيان القرآن لقول الله تعالى «المائدة / ١٠٣»:
«مَا جَعَلَ اللّهُ:
* مِن بَحِيرَةٍ – وَلاَ * سَائِبَةٍ – وَلاَ * وَصِيلَةٍ – وَلاَ * حَامٍ»
هنا يكتشف «الأب القرآني» أنه كان يعيش في غيبوبة الجهل بكيفية التعامل مع القرآن واستنباط أحكامه، وأن الكلمات القرآنية التي كان يفهم معناها، يرجع الفضل في فهمها إلى البيئة التي تربى فيها، وليس إلى القرآن.
ولذلك عندما واجهته كلمات لم يتعلم «مُسَمّاها»، نظر إلى ابنه نظر المغشي عليه من الجهل.
إن فيروس «القرآن وكفى» أخطر من «فيروس كورونا»، ذلك أن الأخير إذا تمكن من جسم الإنسان أنهى حياته الدنيا، أما الأول فينهي حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
# ثانيًا:
يقول «أحمد ماهر» في الفيديو المرفق، وهو من أتباع بدعة «تنقية التراث الديني» لفرقة أهل السنة التي ولد فيها، والذي اشتهر بمطالبة المؤسسة الدينية الرسمية أن تقوم بمهمة تنقية أمهات كتب فرقة أهل السنة، يقول:
١- إنا لا سني ولا شيعي … أنا «مسلم» على ملة إبراهيم، وأتبع رسول الله الذي كان خلقه القرآن، وأنا قلت لكم القرآن خلاص.
* أقول:
وإذا كان «أحمد ماهر» مسلمًا على ملة إبراهيم، ولا علاقة له بفرقة أهل السنة، فلماذا ينشر إشكاليات أمهات كتب أهل السنة تحديدًا، بما في ذلك الخلاف الكبير بين أئمة هذه الفرقة حول تفسير قوله تعالى «هود / ١١٤»:
* «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ …»؟!
ولماذا اكتفى بنقل رأي شاذ لابن عباس «حبر الأمة» يقول إن صلاة المغرب من صلوات النهار، وأصول البحث العلمي تقتضي أن يذكر الآراء كلها؟!
٢- إن هذا الذي فعله «أحمد ماهر» يُسمى بـ «المنهجية الهرمنيوطيقية»، أو «المنهجية الانتقائية»، التي يستخدمها من لا دراية لهم بأصول البحث العلمي، فيقومون باختيار ما يوافق هواهم من المراجع ونشره على الناس.
فلماذا لم ينقل «أحمد ماهر» ما قال أهم كتاب من كتب أحكام القرآن عند أهل السنة، وهو كتاب «الجامع لأحكام القرآن للقرطبي»، عن الخلاف بين الأئمة حول معنى «طرفي النهار»، وترجيح الطبري للرأي القائل إن الطرفين هما الصبح والمغرب، ونقل ابن عطية الرد على ترجيح الطبري بقوله:
«إن المغرب لا تدخل فيه (أي في الطرفين) لأنها من صلاة الليل»، ورد ابن العربي: والعجب من الطبري الذي يرى أن طرفي النهار الصبح والمغرب، «وهما طرفا الليل»؟!
# ثالثًا:
ثم يزيد «أحمد ماهر» الطين بلّتين، ويستدل بقول الله تعالى في سياق الحديث عن قصة إبراهيم «الأنعام / ٧٦»:
* «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً – قَالَ هَـذَا رَبِّي – فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ»
فيضع كلمة «دَخَلَ» مكان «جَنَّ» ويقول:
«فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً»
ثم يقول:
«يبقى علامة من علامات الليل إنك تشوف كوكب في السماء»!!
* أقول:
تعالوا نتدبر هذه الآية وفق المنهجية العلمية التي قام عليها التوجه «نحو إسلام الرسول».
١- «فَلَمَّا»:
(أ): «الفاء»: حرف عطف، وما بعدها معطوف على قوله تعالى «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ».
(ب): «لَمَّا»: اسم شرط بمعنى «حين»:
أي أن إبراهيم كان في الخلاء ينتظر رؤية الكواكب، كما سيتضح ذلك من كلمة «عَلَيْهِ».
(ج): «جَنَّ»: فعل ماضي يعني الإخفاء والستر، يُقال: «جنه الليل»: أي أخفاه، و«جَنان الليل» بفتح الجيم: ظلمته الشديدة.
(د): «عَلَيْهِ»: مُبالغة في الستر بالظلمة، حتى صار الليل كأنه غطاء لإبراهيم.
(هـ): «اللَّيْلُ»: أي الليل الذي ستر إبراهيم بظلمته عندما أظلم، بقرينة «ألـ التعريف» في «اللَّيْلُ»، وشرط الظلمة في «فَلَمَّا»، ليصبح المعنى:
فلما «أظلم» على إبراهيم الليل، الذي لم يكن مظلما من قبل، «رَأَى كَوْكَباً».
# رابعًا:
١- إن معنى الليل والنهار، حسب ورودهما في معاجم اللغة العربية:
(أ): «الليل»: يبدأ عند غياب حافة قرص الشمس عن الأفق، وينتهي عند تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
(ب): «النهار»: يبدأ عند تبين الخيط الأبيض، وينتهي عند غروب الشمس.
٢- وتأتي كلمة «الليل» في السياق القرآني على النحو التالي:
(أ): لبيان دلائل الوحدانية وفعالية أسماء الله الحسنى:
يقول الله تعالى «القصص / ٧١-٧٢»:
* «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ «اللَّيْلَ» سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بـ «ضِيَاء» أَفَلاَ تَسْمَعُونَ»
* «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ «النَّهَارَ» سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بـ «لَيْلٍ» تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ»
نلاحظ في الآية الأولى استخدام «الضياء» في مقابل «الليل»، وفي الثانية «الليل» في مقابل «النهار»، ذلك أن الأصل في الوجود «الظلمة»، فأراد الله أن يبيّن أهمية آية الشمس، وأن بدونها تظل الأرض في ظلمة دائمة:
* «سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
إن الشمس هي مصدر الضياء، لقول الله تعالى «يونس / ٥»:
* «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً»
والليل لا يغطي الشمس وإنما الذي يغطيها هو نصف الكرة الأرضية المقابل لها فيكون نهارًا، والنصف الآخر يكون ليلًا، ولذلك جاء بـ «الليل» في مقابل «النهار»، وجعلهما الله آيتين، فقال تعالى «الإسراء / ١٢»:
* «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ – فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ – وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً»
فبيّن الله تعالى أن آية النهار «مُبْصِرَةً»، ولكن السؤال:
هل هذا الإبصار يظهر فجأة، أم خلال مساحة زمنية تُمحى فيها آية الليل «تدريجيًا» حتى تصبح آية النهار «مبصرة»؟!
لا شك أن «المحو» يحدث تدريجيًا، لأنه لا يُعقل أن نجد ليلًا مظلمًا فجأة، ولا نهارًا مبصرًا فجأة، كما تخيل وابتدع «أحمد ماهر».
(ب): وتأتي لبيان أحكام العبادات:
حيث يرتبط «الليل» بالمساحة الزمنية لحركة دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، والتي تقابلها المساحة الزمنية الخاصة بـ «للنهار»، وذلك في سياق بيان أحكام «الصلاة» و«الصوم».
وهذا «التداخل» القائم بين الليل والنهار، هو الذي أحدث اللبس عند الذين لم يفرقوا بين:
* السياق الذي جاء يتحدَّث عن دلائل الوحدانية وفعالية أسماء الله الحسنى، من خلال بيان المعنى العام لـ «الليل» و«النهار».
* والسياق الذي جاء يتحدَّث عن أحكام الشريعة، من صلاة وصيام، والذي يتعامل مع الليل والنهار من منطلق «آية المحو» باعتبار درجات الظلمة ودرجات الضياء، عن طريق ما سَمّاه القرآن بعمليات:
# خامسًا:
١- معنى «الانسلاخ»:
يقول الله تعالى:
* «وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ – فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ»
إن ظاهرة «الانسلاخ» تكشف الليل الذي كان يغطيه النهار، وتحدث تدريجيا، وكل مكان ينسلخ منه النهار يصبح ليلًا، حتى ينتهي آخر ضوء للنهار عند غسق الليل «فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ».
٢- معنى «الولوج»:
يقول الله تعالى:
* «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ – وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل»
إن «الولوج» يعني إدخال الشيء في غيره، فالنهار يدخل في الليل، والليل يدخل في النهار، ولذلك لاحظ:
سمى الداخل «نهارًا» وإن كان المقصود بداية الضياء:
* «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ»
وسمى الداخل «ليلًا» وإن كان المقصود بداية الظلمة:
«ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ»
٣- معنى «التغشية»:
يقول الله تعالى:
* «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً»
إن «التغشية» تعني التغطية والستر، وسمّى الله فاعل الإغشاء «نهارًا» وسمّاه «ليلًا» لبيان أن كليهما يصلح أن يكون غاشيًا ومغشيًا، وليس مُزِيحًا للآخر، لأن الأصل هو ظلمة الكون، ثم يأتي ضياء الشمس فيخفيها.
لذلك وقع الليل والنهار مفعولَين في حالة نصب «اللَّيْلَ النَّهَارَ»، فالنهار يغشي الليل ويحل محله، والليل يغشي النهار ويحل محله، يطلب كل منهما الآخر طلبا «حَثِيثاً»، أي جادًا سريعًا، كناية عن تعاقبهما بلا فاصل.
٤- معنى «التكوير»:
يقول الله تعالى:
* «يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ – وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ»
إن عملية «التكوير» حقيقة فلكية يتخذ الليل والنهار خلالها الشكل الكروي للأرض، وذلك بصورة دائمة متعاقبة متصلة، وهذا معناه أن هناك مساحة زمنية، لا يكون فيها الليل مظلمًا كليةً، ولا النهار مضيئًا كلية.
# سادسًا:
مما سبق نعلم أن غياب الفهم الواعي لطبيعة المساحة الزمنية المتداخلة بين الليل والنهار، هو الذي أحدث اللبس عند الذين لا يعلمون كيف يتعاملون مع نصوص «الآية القرآنية العقلية».
إن «ضياء النهار»، و«ظلمة الليل»، لا يظهران فجأة للناس، وإنما بصورة تدريجية ومتداخلة ومتعاقبة، وعندما تحدثنا الآيات عن التداخل بين الليل والنهار، فإنها تحدثنا عن شيء نشاهده بأعيننا.
إن اختلاط ضوء النهار مع ظلمة الليل، أثناء عملية التداخل، يجعلنا لا نرى نهارًا ولا ليلًا، وإنما درجةً من درجات النهار، ودرجة من درجات الليل، فإذا بالجاهل الذي لا يعلم ذلك، يضلل الناس بقوله لهم عن غروب الشمس: «أين ظلام الليل»؟!
إنه إذا كان القادم «ليلًا»، عند غروب الشمس، سميت درجة الإضاءة الموجودة بالأفق بـ «الشفق المسائي» المعروف عند أهل اللسان العربي الذين نزل عليهم القرآن، وعند علماء الفلك، أنه أول درجة من درجات «الليل»، وليس من النهار في شيء.
وإذا كان القادم «نهارًا»، عند ظهور الخيط الأبيض من الفجر، سميت درجة الظلمة الموجودة بالأفق بـ «الشفق الصباحي» المعروف بأنه أول درجة من درجات «النهار»، وليس من الليل في شيء.
وعليه أقول:
إن من لا يفطر على أي شيء، ولو شربة ماء، عند النداء لصلاة المغرب، قد عصى الله وتعدى حدوده وفسد صومه، لأن الله تعالى أمره أن يتوقف عن الصيام عند «لحظة» غياب قرص الشمس عن الأفق، والتي عندها يُؤْذَّن لصلاة المغرب، فلم يطع الله تعالى.
إن القرآن «علم»، واستنباط أحكام القرآن «علم»، ولذلك لا تؤخذ إلا من أهل «العلم»، الذين يعلمون لغة القرآن العربية وعلم السياق القرآني، بعيدا عن «إشكاليات التراث الديني» التي طمست بصيرة القرآنيّين والتنويريّين.
* وتذكر:
١- أن الله تعالى لن يقبل إيمانًا ولا إسلامًا من امرئ لم يدخل في «دين الإسلام» من الباب الذي دخل منه الناس في عصر التنزيل، باب الإقرار العلمي بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، القائمة بين الناس إلى يوم الدين.
٢- أنه بدون منهجية علمية تحمل أدوات مستنبطة من القرآن، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية وعلم السياق القرآني، لا أمل أن يفهم القرآن الذين يجهلون هذه المنهجية، ولذلك يكونون الصيد الثمين بين أنياب الملحدين.
٣- أن مقالات هذه الصفحة تتحدث عن «ما يجب أن تكون» عليه حياة المسلمين، فإذا وجدت في هذه المقالات غير الذي أمر الله به في القرآن، فأفدنا بعلمك.
٤- أما «ما هو كائن» في حياة المسلمين اليوم، فيتعلق بمسؤولية كل فرد الدينية، لقول الله تعالى:
* «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري
الرابط: