قال لي «أئمة الخلف»، من أتباع الفرق الإسلامية المختلفة:
أنت اليوم تكفر بـ «المصدر الثاني للتشريع – السُنّة» وغدا ستكفر بـ «القرآن»، ومرت أربعة عقود، وأنا كافرٌ بهذا المصدر، ولم أكفر بـ «القرآن».
ثم أجد اليوم، أن كل من كفر بهذا المصدر، يظل معلقًا به من رقبته، وهو سعيد بالمعجبين بحاله هذا، لأنه إن قطع علاقته بهذا المصدر، سقط في هاوية الجهل بـ «القرآن»، فلا يتبعه أحد.
# أولًا:
إن المتدبر لسياق الآيات التي وردت فيها جملة «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا»، يعلم أن الله قال قبلها في الآية «آل عمران / ٣٨»:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ:
– مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ
– أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ
– فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ»
وأن الخطاب في هذه الآية ليس للمؤمنين الصادقين في إيمانهم، وإنما لـ «المنافقين» الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، أي خاطبهم الله على أساس الظاهر منهم للناس، وهذا الأسلوب كثير في القرآن.
فقد خاطب الله أمة من «أهل الكتاب»، كانت تكتم إيمانها الصادق خشية الإيذاء، بصفتها الظاهرة «أهل الكتاب» وليس بما تبطنه في قلبها من إيمان صادق، فقال تعالى «آل عمران / ١١٣-١١٤»:
«لَيْسُواْ سَوَاء – مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:
– أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
– يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ – وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ – وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
– وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ»
# ثانيًا:
لقد كان كثير من المؤمنين «المنافقين» يعتذرون لرسول الله عن الخروج للقتال بحجج واهية، كما هي عادتهم، ولهم مواقف كثيرة في القرآن تبين أنهم جبناء يعملون على تخذيل الناس عن القتال وتحريضهم على عدم الخروج.
وفي هذا السياق نزل قول الله تعالى «آل عمران / ٣٨»:
«مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ»
ثم قال الله تعالى بعدها «آل عمران / ٣٩»:
«إِلاَّ تَنفِرُواْ – يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً – وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ – وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً – وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
١- إن فعل «انْفِرُوا» من النفر، وهو الانتقال بسرعة، يُقال: نفر فلان إلى الحرب إذا خرج بسرعة، و«النفير» اسم القوم الذين يخرجون للقتال، ويقال: نفر فلان من الشيء إذا فزع منه وأدبر عنه:
«وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ – وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ – نُفُوراً»
٢- وبعد أن قال الله للمنافقين «إِلاَّ تَنفِرُواْ» جاء قوله تعالى «آل عمران / ٤٠»:
«إِلاَّ تَنصُرُوهُ – فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ:
* أي أن ما سيأتي ذكره، قد وقعت أحداثه من قبل نزول الآيات السابقة، وهو:
– «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ – ثَانِيَ اثْنَيْنِ – إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ»
٣- وفعل «أَخْرَجَهُ»: يعني أن قوم الرسول جعلوه مضطرًا إلى الخروج، وقد جاء بيان ذلك في قوله تعالى «الأنفال / ٣٠»:
– «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ – لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ – وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ – وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»
* والمعنى: إن لم تنفروا وتنصروا رسول الله، فإن الله ناصره كما نصره من قبل، يوم أخرجه قومه وليس معه إلا رجل واحد «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» هو «صاحبه» في الغار.
٤- «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ – لاَ تَحْزَنْ – إِنَّ اللّهَ مَعَنَا»
(أ): لا شك أن خروج رسول الله وهجرته ودخوله هو وصاحبه في الغار، كان بوحي من الله تعالي، لبيان فعالية قوله تعالى «فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ …».
الأمر الذي يثبت فضل ومكانة هذا «الصحابي» الذي كان في صحبة الرسول في هذه الرحلة من أولها إلى آخرها، مع ملاحظة أن القرآن لم يذكر اسمه.
(ب): وإن قول رسول الله لصاحبه «لاَ تَحْزَنْ» جعله يشعر بالأمان لوعد الله رسوله بالنصر على الكافرين الذين أخرجوه، ولقوله له بعدها «إِنَّ اللّهَ مَعَنَا».
ألم يقل الله تعالى لموسى وهارون، في سياق بيان نعمة «المعية»:
«لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»
(ج): ولا شك أن هذه المعية «إِنَّ اللّهَ مَعَنَا» معية حفظ ونصرة لرسول الله وصحبه معا، دون فرق، وكل من كان الله معه يكون من المتقين المحسنين:
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ – ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ – وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ»
ليصبح «الصاحبي»، الذي رافق رسول الله في رحلته بأمر من الله تعالى، من المتقين المحسنين، الذي استحق نعمة إنزال السكينة على قلبه.
٥- «فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ – وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا – وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا – وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
وهنا يتدخل «علم السياق» للوقوف على ما يُسمى بـ «توجيه الضمائر» في الجملة الواحدة:
(أ): ذلك أن الضمير في الجملة الأولى:
«فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ»
يعود إلى أقرب مذكور في السياق، وهو الذي قال له رسول الله:
«لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا»
وهو الصحابي «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ» الذي كان مرافقًا لرسول الله في رحلته، ويستحيل أن تكون «السكينة» قد نزلت أولًا على الرسول، وإلا لجاءت الجملة على النحو التالي:
«فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى الْرَسُولِ – فَقَالَ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَن»
وهذا مستحيل: فكيف يكون الرسول خائفًا وقد وعده الله بالنصر؟!
(ب): ولذلك كان الضمير في الجملة الثانية يعود إلى رسول الله محمد، ذلك أن الجملة تحمل مشهدين، فصلت بينهما «واو العطف»:
المشهد الأول:
يتعلق بحدث مضى، وهو رحلة الهجرة إلى المدينة.
والمشهد الثاني:
يتعلق بمعركة حدثت بعد الهجرة بزمن، وهو المعركة التي لم يشارك فيها «المنافقون» الرسول، ونصر الله فيها رسوله:
«وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا – وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى – وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا – وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»
وقد أشار الله تعالى إليها في نفس السورة «آل عمران / ١٢٣»:
«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ – وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ – فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
# ثالثًا:
الآن تعالوا نتفق على هذه الحقائق التي يدركها أهل البصيرة، وأنه لم يرد في القرآن أي بيان لمعنى أي كلمة من كلمات الآية «الأعراف / ٤٠».
لذلك أقول:
١- للقرآنيّين والتنويريّين:
(أ): يا أهل «القرآن وكفى»:
– عن أي شيء «شخص» تتحدثون، بإثبات اسمه أو نفيه، ولم يرد اسمه أصلًا في القرآن، حسب منهجكم في التعامل مع آياته؟!
ألم يكن من الأكرم لعقولكم، أن تسكتوا عن هذا الهراء، وعن هذا العك الفكري والديني، الذي شهدت به الفيديوهات المرفقة، احتراما لمبدأ «القرآن وكفى»؟!
– ثم عن أي معنى لـ «الصحبة» تتحدثون، وتُضيّعون أوقاتكم في البحث عنها في معاجم اللغة العربية، ولا فائدة مرجوة من هذا البحث، ذلك أنكم لا تعيشون أصلًا في عصر التنزيل، لتقفوا على من هو هذا «الصحابي» من بين مئات الصحابة؟!
(ب): يا أهل «القرآن وكفى»:
وهل بيّن الله في القرآن، مكان «الغار» الذي دخله النبي وصاحبه وأين يوجد، وهو المحور الأساس لفهم فعالية نصر الله لرسوله وصاحبه «إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ»؟!
٢- وأقول لأهل التوجه «نحو إسلام الرسول»:
حيث أنه لم يرد في القرآن أي بيان لمعنى أي كلمة من كلمات الآية «الأعراف / ٤٠»، وبناء على المنهجية العلمية التي قام عليها التوجه «نحو إسلام الرسول»، وبالاستعانة بالأدوات التي تحملها هذه المنهجية لفهم آيات الذكر الحكيم:
* أقول:
لقد حملت لنا «منظومة التواصل المعرفي»، التي هي المحور الأساس الذي تدور حوله أدوات فهم القرآن، الآتي:
(أ): عندما يخرج رسول الله للهجرة، فإنه لا يخرج إلا بأمر من الله تعالي، وعندما يختار الله شخصًا يصاحب رسوله في هذه الرحلة، فلا شك أن هذا الشخص يعرف اسمه المسلمون جميعًا، المهاجرون والأنصار.
(ب): وعندما يتفق المؤرخون جميعًا، بمللهم ومذاهبهم العقدية المختلفة، على أن الذي خلف رسول الله في إدارة شؤون البلاد هو «أبو بكر»، فلا شك أن هذه «الخلافة» كانت بمشيئة الله تعالى.
ذلك أن أول تطبيق عملي لفعالية نصوص «الآية القرآنية العقلية» بعد وفاة رسول الله، يجب أن يكون على يد من كان على دراية كاملة بهذه الفعالية، وذلك لقربه وصحبته لرسول الله، وهذا طبعا «حسب علم الله».
وعليه يكون الذي اختاره الله لصحبة رسول الله في رحلة الهجرة هو «أبو بكر».
(ج): أن «الغار» الذي دخله رسول الله و«أبو بكر» بأمر من الله تعالى، هو الموجود حاليا في المملكة العربية السعودية، في جبل اسمه «جبل ثور»، على مسيرة ساعة من مكة.
(د): وبناء على أنه لم يرد في القرآن أي بيان لمعنى أي كلمة من كلمات الآية «الأعراف / ٤٠»، فإن ما سبق بيانه في هذا المقال هو من «باب الاجتهاد»، وفرق كبير بين:
– اجتهاد يقوم على «منهجية علمية» تحمل أدوات لفهم النص القرآني، مستنبطة من ذات النص.
– واجتهاد يقوم على «منهجية عشوائية» لا يُعرف لها أول من آخر.
فإذا قارنا ما ذكرته في هذا المقال، بما ذكره أصحاب الفيديوهات المرفقة، نعلم الفرق بين المنهجين.
* تذكر:
١- أني أتحدث عن «ما يجب أن يكون»، أما «ما هو كائن» فتدبر:
«وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
٢- أنه لا إيمان ولا إسلام دون الإقرار بصدق «الآية القرآنية العقلية» المعاصرة للناس جميعا اليوم، والتي بدونها ما عَرَفَ المسلمون مفهوم «الوحدانية»، ولا «صدق النبوة»، ولا أحكام الشريعة القرآنية.
محمد السعيد مشتهري
* وهذه هي الروابط التي تشهد أن جميعهم يتحدثون من داخل مقبرة تراث الفرقة التي ولدوا فيها، وهو عين «شرك التفرق في الدين»، ثم يقولون إننا أهل «القرآن وكفى»!!
١- رأي أهل السنة «أحمد صبحي منصور»
https://www.youtube.com/watch?v=pWKwGAWWiL4
٢- أحمد عبده ماهر
https://www.youtube.com/watch?v=VNj-KBmcsYw&t=28s
٣- رأي الشيعة «كمال الحيدر»
https://www.youtube.com/watch?v=WQ3bTEmjly8
وطبعا هذه مجرد عينات من العشرات التي تشهد بأن كل صاحب توجه ديني عندما يذهب ينقض التراث الديني، يتحدث من داخل المقابر التراثية.