إن من رحمة الله بالناس، أن أرسل إليهم الرسل بالبينات، الدالة على صدق بلاغهم عن الله، وأنزل معهم الكتاب بالحق والميزان: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” – “اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ”، وأمرهم أن يبيّنوا للناس أنه لولا “الحق والميزان”، لاتبع الناس أهواءهم، ولفسدت السماوات والأرض ومن فيهن: “وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُم لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ”.
إن “الحق” واحد، لا شريك له، فالذي وضع “الحق” هو الله تعالى: “وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ”، لذلك كان الطريق إلى “الحق” هو البراهين القطعية الثبوت عن الله تعالى. فالذي لا يعرف الطريق إلى “الحق” قد غابت عنه البراهين الموصلة إليه، فلا يتهم “الحق”، ويتهم نفسه!!
وإن “الميزان” واحد، لا شريك له، فالذي وضع “الميزان” هو الله تعالى، لذلك كان الطريق إلى هذا “الميزان” هو معايير وضوابط وحدود الشريعة، التي بيّنتها آيات الذكر الحكيم. وإذا كانت “آلة الوزن”، التي صنعها الإنسان تخطيء، فإن “ميزان الله” لا يخطئ أبدا. إنه تقدير العزيز العليم: “ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ” – “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” – “وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ”.
إنها منظومة إلهية متكاملة متناغمة: البيّنة – الكتاب – الحق – الميزان، وما كان للبشر، أن يدركوا وحدهم البيّنة [الآية]، ولا الكتاب [الشريعة] ولا الحق [المنهج] ولا الميزان [السنن والأدوات] بمعزل عن الله تعالى، فهناك شيطان يوسوس، وأهواء تضلل، وقلوب تمرض…، والهداية لا تكون إلا من الذي خلق: “الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ” – “الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” – “الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى” – “وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى”.
إن هذه المنظومة الإلهية المتكاملة المتناغمة [البيّنات، الكتاب، الحق، الميزان] قد أنزلها الله تعالى “لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”، كما بيّنت آية سورة الحديد، وهي التي سيحاسب عليها الناس يوم القيامة: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً”…، فماذا فعل أئمة وعلماء ودعاة الفرق الإسلامية المختلفة بهذه المنظومة في دنيا الناس؟!
لقد حصروا طاعة الرسول، والتأسي به، في الباطل الذي نقله الرواة إليهم، ولم يتبعوا الرسول في “الآية البيّنة”، ولا في “الكتاب”، ولا في “الحق”، ولا في “الميزان”؟!! أتعلمون لماذا؟! لأنهم اتبعوا شيطان الجن والإنس، فجعلوا إلههم هواهم، ثم جعلوا أنفسهم أوصياء على دين الله…، فتركهم الله تعالى لسنة “الاختيار”!!
لقد جعل الله سنة “الاختيار” ابتلاءً للناس، فنرى “المقلد” يصبح عالما بغير علم، ومُفتيا بغير تخصص، ومفكرا إسلاميا بغير مشروع إسلامي…، فقد غابت عنهم “الآية القرآنية”، وهجروا “الكتاب”، وضيّعوا “الحق”، وأفسدوا “الميزان”، وأصبح الناس يسألون: هو “مين الصح ومين الغلط”، وهم لم يعرفوا “الآية”، ولم يتبعوا “الكتاب”، ولم يروا “الحق”، ولم يقيموا الوزن بالقسط!!!
* وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [7] أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ[8] وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [9] الرحمن