إن حب الله ورسوله، شعورٌ وجداني يجده المؤمن في قلبه، «القلب السليم»، وعاطفة تجيش بها نفسه، «النفس الذكية»، ومحبة الله هي القاعدة التي انطلقت منها محبة الرسول واتباعه والعمل بنصوص وأحكام «آيته القرآنية العقلية»:
«قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ – فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ – وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ – فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ»
ومحبة رسول الله محمد، عليه السلام، لا تنقطع من قلب مؤمن أسلم وجهه لله، سواء كان الرسول حيًا أم ميتًا، فـ «آيته القرآنية العقلية» المعاصرة للناس جميعًا، هي الرسول الذي يعيش بينهم.
# أولًا:
إن محبة الله ورسوله لا يعلوها شيء مهما كان، فتدبر:
يقول الله تعالى «التوبة / ٢٤»:
«قُلْ إِن كَانَ:
آبَاؤُكُمْ – وَأَبْنَاؤُكُمْ – وَإِخْوَانُكُمْ – وَأَزْوَاجُكُمْ – وَعَشِيرَتُكُمْ – وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا – وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا – وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا:
أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ:
فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ:
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»
فانظر وتدبر كل كلمة في هذه الآية، واسقطها على حياتك اليومية لتعلم موقفك من أحكامها، وهل أنت من الذين قال لهم الله «فَتَرَبَّصُواْ»؟!
إن هذه الآية هي البرهان قطعي الدلالة على أن «محبَّة الله ورسوله والجهاد في سبيل الله» أصلٌ عظيم من أصول الإيمان تنطلق منها أصول الإيمان كلها.
والمقصود بـ «الجهاد في سبيل الله» كل «جهد» يبذله المؤمن في حياته ومعايشه، والذي يقابل به تحديات إيمانه وإخلاص عبوديته لله تعالى، ومن ذلك «القتال في سبيل الله»، فـ «الجهاد» أعم من «القتال».
فإذا علمت أن الله توعد الذين جعلوا محبة أي شيء في هذه الدنيا فوق محبته ومحبة رسوله والجهاد في سبيله، فقال تعالى لهم:
«فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ – وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»
وأن «محبة الله ورسوله والجهاد في سبيل الله» أصل من أصول الإيمان، لا تؤدى أحكام القرآن إلا على أساسه، وأن ضياع هذا الأصل يجعل معيشة المسلمين الدينية «معيشة نفاق»، ولو كانوا يحفظون القرآن ويؤدّون الشعائر كلها.
فإن السؤال:
أين نجد مظاهر وعلامات حب المسلمين لله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، في حياتهم اليومية، سلوكًا عمليًا على أرض الواقع؟!
والجواب:
هناك منظومة من «المشاغل الدنيوية» استحوذت على قلوب المسلمين فأنستهم «ذِكْرَ اللَّهِ» الذي هو البرهان على هذا الحب، ومن ينسى «ذِكْرَ اللَّهِ» يستحوذ على قلبه الشيطان فيكون من الخاسرين:
يقول الله تعالى «المجادلة / ١٩»:
«اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ – فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ – أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ – أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»
# ثانيًا:
في مجتمع «الإيمان والعمل الصالح» الذي أسلم أفراده وجوههم لله تعالى، يستحيل أن تطغى «المشاغل الدنيوية» على «حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله»، ولا أن تربط أفراد «البيت المؤمن» رابطة غير رابطة هذا الحب:
وغير ذلك يكون مصير العلاقات العائلية «الخراب» في الدنيا، حتى ولو كانوا من أصحاب البلايين، و«جهنم» في الآخرة، حتى وإن كانوا يظنون أن قلوبهم عامرة بـ «الإيمان»، ويقومون بأعمال خيرية وإنسانية، ويسهرون على تربية ومصالح الأولاد!!
إن «القلب المؤمن» الذي «أسلم وجهه لله» لا يسعد إلا بـ «ذِكْرَ اللَّهِ»، ولا يطمئن ويهدأ إلا بـ «ذِكْرَ اللَّهِ»، الأمر الذي جعل الشيطان يضع من أولويات إغواءاته صرف المؤمنين عن «ذِكْرَ اللَّهِ» بـ «المشاغل الدنيوية»، مع زيادة جرعاتها يوما بعد يوم.
فتعالوا نلقي الضوء على بعض ما يحدث «يوميًا» في حياة المسلمين، وكيف يستحوذ إغواء الشيطان على معظم ساعات يومهم، ليصرفهم عن «ما يجب أن يكون»:
١- تضخيم مشاكل العمل.
٢- تضخيم مشاكل الأسرة والأولاد.
٣- إدمان «الموبايل» فلا يفارق أعينهم.
٤- تزيين ما يُنشر يوميًا من أباطيل دينية على وسائل التواصل الاجتماعي.
٥- إصابتهم بالاكتئاب من الأخبار المحلية والعالمية.
٦- فتنتهم ببرامج التوك شو والأفلام والمسلسلات.
٧- فتنتهم ببرامج النجوم المشهورين، السلفيّين والتنويريّين.
٨- تغييب عقولهم عن طريق الرسائل الدينية والفيديوهات التي تنشر على الخاص، ويُطلب تشيرها، ومعظمها «الصلاة على النبي»، وأكيد فيه الآن من سيقولون اللهم صلي عليه، فإذا ذُكر الله لم يقولوا شيئًا!!
إلى آخر «الانشغالات» التي تجعل يوم المسلمين مشحونًا بطاقة سلبية من «النفاق»، بما في ذلك الصلوات الخمس، التي تؤدى «ترانزيت» في دقيقة في غير وقتها، ثم ينطلق المصلي سريعا ليسلم نفسه للشيطان.
فمتى تخشع قلوب المسلمين لـ «ذِكْرَ اللَّهِ»، وسط هذه «الانشغالات الدنيوية»، تفعيلا لقوله تعالى:
«قُلْ إِنَّ صَلاَتِي – وَنُسُكِي – وَمَحْيَايَ – وَمَمَاتِي – لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ – وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ – وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»؟!
لماذا كانت «الانشغالات الدنيوية» حاكمة على الفهم الواعي لمعنى قوله تعالى:
«لاَ شَرِيكَ لَهُ – وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ – وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»؟!
كيف تكون حياة المسلمين ومعايشهم غير إسلامية، والله تعالى يقول:
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي – فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً – وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى – قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى»
أليس هذا هو كلام الله تعالى؟!
فهل علمتم، من خلال متابعة مقال الاثنين والخميس، ماذا فعل إبليس وشياطينه في قلوب المسلمين، وخاصة أصحاب وأتباع القراءات القرآنية المستنيرة والمعاصرة، الذين تهوى قلوبهم كل انحراف عن أحكام القرآن وعن صراط الله المستقيم؟!
والآن، وعلى وجه السرعة، يوسوس لهم إبليس شخصيا، ويقول:
قولوا لـ «محمد مشتهري» هذا هو الفكر «الداعشي»!!
فيرد عليهم الله بعد قوله تعالى «وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى»:
«وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ – وَلَعَذَابُ الأخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى»
# ثالثًا:
إن هذه «الدوامة الذهنية الفكرية» التي يعيش بداخلها المسلمون وتشغلهم يوميًا عن «ما يجب أن يكون»، ويمر عليهم اليوم والاسبوع والشهر، والعام بعد العام، وهم كما هم، وقد ألفوا معيشة «ما هو كائن»، ولا تجد فعالية في حياتهم لقول الله لرسوله الذي يدّعون حبه ويُصلّون عليه كلما ذُكر اسمه «غافر / ٥٥»:
«فَاصْبِرْ – إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ – وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ – وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ – بِالْعَشِيِّ – وَالإِبْكَارِ»
ولا لقول الله تعالى لرسوله «طه / ١٣٠»:
«فَاصْبِرْ – عَلَى مَا يَقُولُونَ – وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ – قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ – وَقَبْلَ غُرُوبِهَا – وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ – وَأَطْرَافَ النَّهَارِ – لَعَلَّكَ تَرْضَى»
إنها أوقات «عبادة» مفروضة على كل مؤمن، وهي غير أوقات «الصلاة»،
وليست خصوصية لرسول الله، بقرينة قوله تعالى «الأحزاب / ٢١»:
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ – أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ – لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر – وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً»
فكم عدد المسلمين الذين يسبحون الله:
١- «قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ»:
وليس في وقت صلاة الفجر، كما يدعي أئمة السلف.
٢- «وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»:
وليس في وقت صلاة العصر، كما يدعي أئمة السلف.
٣- «وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ»:
وهو قيام الليل.
٤- «وَأَطْرَافَ النَّهَارِ»:
إشارة إلى أن يشمل التسبيح النهار كله، لكونه محل «الانشغالات الدنيوية»، فكل نقطة تتغير فيها حركة الشمس «فلكيًا» نحو الغروب، هي طرف من أطراف النهار، وآية من آيات الآفاق، يجب أن يقابلها المؤمن بـ «التسبيح»:
وهذا ما أفاده قول الله تعالى في سياق بيان نور الهداية الإلهية:
«فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ – وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ – يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ – لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ – وَإِقَامِ الصَّلاَةِ – وَإِيتَاء الزَّكَاةِ – يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ»
فأين هم هؤلاء «الرجال»، وأيضا «النساء»، لأن التعميم في الأحكام يشملهن، كقوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ»
فأين «هم وهن» من منظومة التسبيح التي يجب أن تكون لها فعالية في حياة المسلمين اليومية، ولو لمدة دقيقة واحدة كل ساعة، وذلك من باب الجهاد في سبيل الله، يُقرّون أنهم يحبون «الله ورسوله والجهاد في سبيل الله»؟!
فإذا نظرنا إلى ما يفعله المسلمون عند ذكر اسم رسول الله، أو عند كتابته في كتاب أو مقال، نجدهم ينطقون أو يكتبون تلقائيا «صلى الله عليه وسلم» وكأنهم مُبرمجون على هذا حتى ولو ذُكر اسم الرسول كل ثانية!!
والحقيقة:
أنهم يُصلون على «النبي» ويُعصون «الرسول» لأنهم لا يُحبون الله ورسوله والجهاد في سبيل الله.
* تذكر:
أني أتحدث عن «ما يجب أن يكون» … أما «ما هو كائن» فتدبر:
«وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري
إن هذا التسجيل المرفق هو خطبة جمعة منذ ربع قرن تقريبا، يوم أن كنت أخطب الجمعة حول موضوعات تتعلق بتفعيل آيات الذكر الحكيم في حياة الناس، ثم تم رفعها على الموقع منذ ثلاث سنوات مع بعض الخطب الأخرى.