عندما نعلم أن «البيئة الوراثية»، من لدن آدم، هي التي تصنع مستقبل الشعوب «دنيا وآخرة، سلبًا وإيجابًا»، نفهم لماذا دعا نوح ربه:
«رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ – يُضِلُّوا عِبَادَكَ – وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»
انظر إلى الإشارة إلى دور الأم، قبل وخلال فترة حضانة أولادها:
«وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»
وكما ورث المسلمون تدينهم المذهبي وشرك التفرق في الدين، ورثوا أيضًا قلوبًا مريضة، لم تترب منذ طفولتها على «حب الله» ولا على كراهية معصية الله، ولا على النهي عن كل ما يُغضب الله.
لقد فتحت قلوب المسلمين أبوابها لإبليس وشياطينه، فزيّن لها كل المنكرات، كما زيّن لأبيهم الأكل من الشجرة، ولكن الفرق:
أن فتنة آدم كانت لتشريع التوبة، وبيان قبول الله لتوبة عباده:
«فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ – فَتَابَ عَلَيْهِ – إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
لقد تاب الأب فور المعصية، أما ذريته فلم يسمح لها إبليس أن تتوب فور المعصية، وذلك لأنه توعدهم جميعًا بالإغواء:
«قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي – لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ – وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»
«إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»:
وقليل ما هم، بل ومن النادر وجودهم.
# أولًا:
لقد ألفت قلوب المسلمين «المعاصي» فلم تعد تراها، وألفت «المنكرات» ولم تعد تراها، وانظر في بيتك وخارج بيتك بعين «البصيرة القرآنية» وأنت تعلم لماذا قال رسول الله محمد لربه:
«وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»
أما أن يدعي قلب أنه مسلم، وأنه يعمل بأحكام القرآن، ويستغفر فور كل معصية، وهو أصلا لم يعرف إلى «حب الله» طريقًا، فهذا من:
«الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا – وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»
إن «حب الله» هو القاعدة الإيمانية التي ينطلق منها العمل بأحكام القرآن، فكيف يسبق العمل الإيمان، فتدبر:
«قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ – فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ – وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ – وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»
* تعريفات:
١- «الحب»:
ميل قلبي إيجابي تجاه شيء «معنوي» والاستئناس به دومًا:
فإذا وُجد ولم يختلط بـ «الإعجاب» فلن ينفد رصيده على مدار السنين.
ولقد أشار الله إلي هذا الميل القلبي «الإيجابي» في سياق بيان أحكام تعدد الأزواج «النساء»، فقال تعالى:
«فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ – فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»
أي لا تميل قلوبكم «كل الميل» تجاه بعض النساء دون البعض.
٢- «الإعجاب»:
ميل قلبي إيجابي تجاه شيء «مادي»، ولذلك ينفد رصيده مع الوقت، كـ «حسن المرأة»، فيقول الله تعالى مخاطبا رسوله محمدًا:
«لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ – وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ – وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ – إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ – وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً»
أي لا يحل لك الزواج من النساء الحرائر «وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ»، ويحل لك الزواج من «ملك يمينك».
٣- «الكره»:
ميل قلبي سلبي تجاه شيء «معنوي»، ويزول بزوال المؤثر.
يقول الله تعالى في سياق بيان أحكام النساء:
«فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ – فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً – وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً»
# ثانيًا:
وإن أعلى درجات الحب درجة «الحب الودود» الذي يُطهّر نفسه دوما مما يُغضب «المحبوب»، هذا الحب الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا – وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ – سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً»
* يُقال: ود فلان فلانًا، إذا أحبه وأخلص له المودة:
ويخص «الرَّحْمَنُ» أصحاب القلوب الودودة من المؤمنين والمؤمنات بمحبة ومودة إيمانية عندما يجمعهم بيت الزوجية:
«وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا – وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً – إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»
إن «الحب الودود» بين الزوجين لا يتعلق إلا بما يحبه الله، ذلك أن مصدره الحقيقي هو الله تعالى:
«سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً»
فكيف بحال أسرة أقام أفرادها معيشتهم على ما يحبه الله؟!
إن «الحب الودود» هو الميزان الذي يساعد «البيت المؤمن» على ضبط حبهم للدنيا، ذلك أن استحباب الحياة الدنيا على الآخرة يُصلح دنياهم ولا يصلح آخرتهم، أما استحباب الآخرة على الدنيا يصلح آخرتهم ودنياهم معاً:
«بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى»
إن «الحب الودود» هو الميزان الذي يجعل «البيت المؤمن» لا يجد هناك تعارضًا ولا تعطيلًا لمهمة استخلافه لعمارة الأرض، ذلك أن بإمكانه أن يجعل آخرته ثمرة صلاح دنياه.
إن «الحب الودود» منظومة متناغمة متوافقة إيمانياً وفكرياً وأخلاقياً، إنها «منظومة الرؤية الإيمانية المشتركة» بين أفراد «البيت المؤمن»، والتي تثبت أنهم على الفهم الواعي لمعنى أن الزواج «آية إلهية»، وليس معيشة مادية «جنسية» فقط.
إن «الحب الودود» لا يجعل الهدف من الزواج مجرد قضاء شهوة غريزية فطرية لولاها ما كان هذا الوجود البشري، وإنما يجعل المشاعر الحميمة بين الزوجين لا تنسى نعمة الله عليهما بـ «آية الزواج»، فلا يُغضبان الله.
# ثالثًا:
١- يقول الله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ – وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ»
هذا هو «الميزان»:
فإذا كان «الحب» في حياتك اليومية «درجات»، فإن أعلاها درجة «حب الله»:
«وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ»
فاستعرض حياتك اليومية، وقيّمها على هذا الأساس، واجعل البرهان على صدق شدة حبك لله، أن ترى حياتك كلها وهي تتجه سلوكًا عمليًا نحو تفعيل هذه الآية:
«قُلْ إِنَّ صَلاَتِي – وَنُسُكِي – وَمَحْيَايَ – وَمَمَاتِي – لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ – وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ – وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»
تدبر: «وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ»:
فهل هي خصوصية لرسول الله، عليه السلام، أم حكم عام يشمل جميع المسلمين:
«وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»؟!
فهل تجد فعالية لهذه الآية في حياتك وحياة عائلتك؟!
إن تفعيل هذه الآية في حياة المسلمين، هو البرهان الحقيقي على حبهم لله، وعلى فعالية فريضة «الولاء» بينهم، فمتى سيكون لها وجود عملي في حياتهم؟!
٢- ويقول الله تعالى:
«مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ – فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ»
إن «المرتد» لا يحب الله، «وطبعا هو حرٌ»، وليس على ردّته وعدم حبه لله «عقوبة دنيوية»، إلا إذا تحولت إلى إفساد في الأرض.
إن قضية المرتد عن «دين الإسلام» ليست قضية شخصية لذلك نتخلص من جسده، وإنما هي قضية «إرادة حرة» خلقه الله بها ليختار بين البدائل، لذلك قال تعالى:
«لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ – قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»
والذين لا يحبون الله، «كالمرتد»، ليس لهم مكان بين المسلمين، ولا يُسمح لهم بـ «حرية الفكر»، ذلك أن داخل «دين الإسلام» لا توجد «حرية فكر» وإنما طاعة مطلقة لأمر الله ونهيه، والذي يريد أن يرتد فهذه «حرية كفر».
أما «السرقة» و«الزنا»، فقد شرع الله لهما عقوبة، لا تنقض الإرادة الحرة للسارق والزاني في الاختيار بين البدائل، وإنما لأن السارق والزاني «مُفسدون في الأرض»، هذا الإفساد الذي ينتشر ويتشعب بين الناس كالسرطان ليقضي عليهم.
# رابعا:
إن «حب الله» هو الذي جعل يوسف، عليه السلام، «يُحب السجن» ولا يعصي ربه:
«قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»
لقد تعرض يوسف، عليه السلام، لفتنة تفوق قدرة البشر على تحملها، ولأن قلبه «يحب الله»:
«قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»
ثم انظر إلى طبيعة وحجم الفتنة:
«وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ – أَصْبُ إِلَيْهِنَّ – وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ»
وكم هي القلوب الجاهلة التي لا تعرف إلى «حب الله» طريقًا تلجأ إليه لينجيها من فتن إبليس وشياطينه، فتدبر ماذا قال الله تعالى لإبليس:
«قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ»
لقد استجاب الله ليوسف لأنه لم يتبع إغواء إبليس وفتن شياطينه:
«فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ – فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ – إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»
ولم تكن نجاة يوسف من كيد النسوة خصوصية له، لأن الله وعد الرسل، ووعد المؤمنين، بأن ينجيهم:
«ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا – وَالَّذِينَ آمَنُواْ – كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا – نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ»
بل ووعد المنافقين إن هم تابوا وأخلصوا دينهم لله أن يؤتهم أجرًا عظيمًا:
«إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ – وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً»
«إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ – وَأَصْلَحُواْ – وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ – وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ – فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ – وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً»
لقد كان يوسف، عليه السلام، من الذين «أَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ»، لذلك صرف الله عنه «السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ»، واستحق أن يصفه بقوله تعالى «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ».
والسؤال:
لماذا لم يستخدم يوسف لفظ «أفضل» فقال:
«رَبِّ السِّجْنُ أَفْضَلُ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»
وإنما قال:
«رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»؟!
لماذا قال «أَحَبُّ إِلَيَّ»؟!
لأن نقيض الحب «الكُرْه»، وقلب يوسف يكره أصلا معصية الله، ويُحب كل شيء يبعده عن المعصية، لذلك أحب «السجن».
والسؤال:
إن «الحب» يحتاج إلى «محبوب»، فمن هو محبوبك، وما هو البرهان على شدة حبك له؟!
ولكن قبل أن تجيب، يجب أن تعلم:
أن «القلب» هو الذي نَزْرَع فيه «الحُب»، ونَزْرَع فيه «الكُرْه» وكلما كان «القلب» سليمًا، استطاع أن يُخرج ثمار «الحب» سليمة، وأن يُخرج ثمار «الكُره» أيضًا سليمة.
فهل عرفت الآن:
أين تَزْرَع الحب، وكيف تروى شجرته، ولمن تعطي ثمارها؟!
* تذكر:
أنني أتحدث عن «ما يجب أن يكون» … أما «ما هو كائن» فتدبر:
«وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ – وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً – اقْرَأْ كَتَابَكَ – كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
محمد السعيد مشتهري