«على هامش مقال الأمس: ٢٠/ ١٢/ ٢٠١٩»
منذ عقود من الزمن، وأنا في حيرة من أحوال المسلمين لا يعلم ثقلها على نفسي إلا الله تعالى، ذلك أنه على الرغم من أن توجهي الديني ألا أتحدث مع الناس إلا عن «ما يجب أن يكون»:
إلا أني على المستوى النفسي، أعيش أزمة «المنكرات» التي تراها عيني ليل نهار، ولا أملك إلا النهي عنها كما أمرني ربي، وغالبا يكون هذا النهي بأسلوب فظ غليظ لا إرادي، حسب طبيعة المنكر، وهل يمس أصول الإيمان أم أحكام القرآن.
من الصعب جدا على «القلب» الذي درس القرآن وعلم ما يحمله «كلام الله» من أحكام الملة والشريعة، أن يقف متفرجًا على «المنكر» التي أصبح معروفًا بأيدي المسلمين، والمعروف الذي أصبح منكرًا على أيدي المسلمين، ولا يغضب ويفور دمه، إلا إذا كان «منافقًا».
# أولًا:
١- لقد أشهد الله بني آدم على أنفسهم، وأقرّوا بالوحدانية وبصدق الربوبية «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ»، وقالوا «بَلَى شَهِدْنَا».
٢- وعرض الله على بني آدم «أمانة التكليف» وقبلوا حملها «وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ»، والله تعالى يعلم أن فريقًا منهم سيظلم نفسه عندما يخرج إلى الدنيا، «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» لجهلهم بأن عليهم تسليم «الأمانة» لله تعالى كما استلموها في الأزل.
٣- وهؤلاء الذين وصف الله كل فرد فيهم بـ «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» هم الذين بدأ سياق الآية التالية بذكرهم بـ «لام التعليل»، فقال تعالى «الأحزاب / ٧٣»:
«لِـ يُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً»
(أ) ولم يذكر السياق «الكافرين» لأن «ملل الكفر» كلها، ومنها «النفاق» الذي خصه بالذكر لخطورته، تقوم على «شرك الهوى»، فتدبر «الجاثية / ٢٣»:
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ – وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ – وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ – وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً – فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ – أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ».
(ب) وذكر وجوب «التوبة الفورية» على المؤمنين الذين يعصون ربهم، وأن الله سيقبل توبتهم «وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً»، بشرط عدم الإصرار على المعصية.
# ثانيًا:
لا يوجد مؤمن أسلم وجهه لله تعالى، ودخل «دين الإسلام» من بابه الصحيح، باب الإقرار بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، عليه السلام، يعصى ربه ولا يتوب من معصيته فور ارتكابها، وإن لم يفعل كان منافقًا.
١- يقول الله تعالى «آل عمران / ١٣٥»:
«وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً – أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ – ذَكَرُواْ اللّهَ – فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ – وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ – وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ – وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
إن العطف بـ «الفاء» الوارد في كلمة «فَاسْتَغْفَرُواْ»، يبيّن أن الذي لا يتذكر الله فور معصيته، وهو يعلم من هو الذي عصاه، تنتفي عنه صفة الإيمان، ولن يدخل ضمن الذين استحقوا مغفرة الله تعالى «آل عمران / ١٣٦»:
«أُوْلَـئِكَ – جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ – وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ – خَالِدِينَ فِيهَا – وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»
٢- إذا مات من عصى ربه فور معصيته، ولم يتمكن من التوبة، فهؤلاء الذين قال الله عن أعمالهم «هود ١١٤»:
«إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ»
إن الذي عصى ربه مرة ومات فور معصيته، تُذهب حسناته هذه «السيئة» التي فعلها قبل موته، وليس ذلك للمصر على فعل السيئات، فإذا حضر الموت قال إني تبت الآن:
يقول الله تعالى «النساء / ١٧»:
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ – لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُوءَ بِجَهَالَةٍ – ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ – فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ – وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً»
ثم تدبر جيدا ماذا قال الله بعدها «النساء / ١٨»:
«وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ – لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ – حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ – قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ – وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ – أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً»
٣- ولماذا كان مصير «المسلم» المصر على فعل «السيئة» و«الكافر» الذي يموت على الكفر، مصيرًا واحدًا، وهو:
«أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً»؟!
إن هذه الآية خير برهان على أن المُصرّ على معصية الله كافرٌ ولو كان يقيم الشعائر كلها، ويحفظ القرآن كله …، لأن هذه «أحكام»، والأحكام إذا لم تقم على الفهم الواعي لـ «الوحدانية» ولـ «إخلاص العبودية لله» فلا قيمة لها في ميزان الآخرة وإن ظن المسلمون أنها طوق نجاتهم من جنهم:
يقول الله تعالى في سياق الرد على من جعلوا من أنفسهم آلهة يعلمون ماذا سيحدث لهم في الآخرة «البقرة / ٨٠»:
«وَقَالُواْ – لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً – قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ – أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»
ثم جاء الله تعالى بـ «الميزان» الذي سيُظهر نتيجة من الذين يدخلون الجنة، ومن الذين يدخلون جهنم، فقال تعالى «البقرة / ٨١»:
«بَلَى – مَن كَسَبَ سَيِّئَةً – وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ – فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ – هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
إن على المؤمن الذي أسلم وجهه لله أن يلقى الله وهو لا يحمل أي معصية، إلا إذا مات بعد ارتكابها مباشرة، كما سبق بيانه:
وهذا هو مفهوم «الإيمان والعمل الصالح»، الفريضة الغائبة عن معظم المسلمين، كما أفاد قوله تعالى بعدها «البقرة / ٨٢»:
«وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ – أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
ثالثًا:
منذ أن أنشأت هذه الصفحة، وكلما تحدثت في مقال عن «منكر» يُصر المسلمون على فعله، وخاصة المنكرات التي تحملها سلوكيات المسلمين الظاهرة بين الناس:
«كالتدخين، وسفور المرأة المسلمة، وعمليات التجميل غير العلاجية … إلى آخره»
وأنا ألاحظ عدم تسجيل أصحاب هذه المنكرات إعجابهم بمثل هذه المقالات، وكأني أصنع هذه الأحكام في بيتي، ثم أعرضها في سوق «الفكر الديني»، وليست هي «أحكام القرآن» التي لم أجد أحدا استطاع بعلمه أن ينقضها بأدلة قرآنية.
واللافت للنظر، أن معظم الذين رفعوا من على أكتافهم حمل وأعباء «أحكام القرآن»، هم الذين اتبعوا «المنهج الإلحادي» الذي فتن به المدعو «محمد شحرور» المسلمين، ونزع عنهم لباسهم، الأمر الذي حذر منه الله بني آدم فقال تعالى «الأعراف / ٢٧»:
«يَا بَنِي آدَمَ – لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ – كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ – يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا – لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا – إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ – إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ»
وليس بعد نزع لباس الفهم الواعي لـ «الوحدانية»، ونزع لباس «التقوى» والالتزام بـ «أحكام القرآن»، من فتنة شيطانية شحرورية اخترقت قلوب «الجهال» من المسلمين.
والحمد لله لقد انتهيت من تأليف كتاب:
«نحو إسلام الرسول – القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم – الكتاب والقرآن – محمد شحرور نموذجا – نقض المنهجية»
والكتاب يزيد عن «٥٠٠ صفحة»، والآن في مرحلة إجراءات النشر، الذي سيظهر للناس جميعًا، بعد ترجمة الكتاب، وليس فقط «المسلمون»، من هو «محمد شحرور»:
ولماذا جعل شخص يُدعى «د. جعفر دك الباب» يكتب له المقدمة عن «المنهج اللغوي في الكتاب»، ويضع له ملحقا باسم «أسرار اللسان العربي» في نهاية الكتاب، وهذا الشخص هو الذي كان سببا في غرق «سفينة القراءة المعاصرة» بكل ما تحمله من مؤلفات شحرور، التي جعلت من اتبعوه ينزعون لباسهم فبدت سوءاتهم العقلية والفكرية.
فأنا لا أصنع «أحكام القرآن» في بيتي، والذي يريد أن ينقض حكما واحدا مما حملته مقالات هذه الصفحة منذ إنشائها، يتفضل علينا بعلمه، باعتبار أن هذا الحكم هو ما نص عليه القرآن، وليس محمد مشتهري، وعليه أن يأتينا من القرآن بما ينقضه، وإلا فليصمت.
رابعا:
مما سبق بيانه، وخاصة ما جاء في أولًا وثانيًا، يفرض على كل مؤمن أسلم وجهه لله تعالى، أن يزن كل خطوة يخطوها بميزان «أحكام القرآن»، فشهوات الدنيا، وإله الهوى، والإصرار على ارتكاب المحرمات، لن ينفع الإنسان في الآخرة:
لأن عليك أن تُسلّم «الأمانة» كما استلمتها من الله تعالى، نقية صافية من أي شرك، وأعظم الشرك الإصرار على معصية الله.
أحد الأصدقاء كان له تعليق على منشور الأمس، بخصوص موضوع «التدخين»، ولا أعلم لماذا أخذ موضوع «التدخين» ولم يأخذ معه موضوع «سفور المرأة»، حيث أني ذكرتهما معًا، إلا إذا كان «مدخنًا» فأراد أن يبرر إصراره على «معصية» الله بهذا التعليق:
يقول الصديق عمار عمران سعد الحطامي
(في دين الله كلامك رائع، وأنا موافقك لما تدبرت به من آيات الله وطبعا التدخين، والذي مدمن على شيء عليه وعلى جسده ضرر، أعتقد أنه بينه المولى سبحانه أن الحسنات يذهبن السيئات)
وذهب الصديق يستشهد بآية «هود / ١١٤» وقوله تعالى:
«إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ»
ويقول:
(عندما الله بيّن لنا أنه غفور ويغفر، فهذا يعني أن الإنسان معرض لذنوب، ولذلك الله تكفل أنه سيغفر لأنه غفار، ولذلك الذي يدخن أو يعمل الذنوب، عليه بتوبة والله سيغفر له)
* أقول:
نعم: الله تعالى «غفور رحيم»، وعلى مرتكب المعصية أن يقلع عنها نهائيًا، ويتوب، وإذا رجع إليها عليه أن يتوب ويعزم ألا يعود إلى هذه المعصية أبدا، فإن عاد إليها دخل دائرة «المصر على المعصية»، وعليه أن يتدبر ما سبق أن ذكرته.
ولكن يبدو أن الصديق «عمار» يقصد أن على «المدخن» أن يستغفر ويتوب إلى الله بعد تدخين كل سيجارة، وهذا في الحقيقة يدخله ليس فقط دائرة «المصر على المعصية»، وإنما أيضا دائرة «الاستهزاء بالله وأحكامه»، فيقول:
إن على المدخن ألا (يقنط من رحمة الله) وأن عليه (أن يدعو الله أن يبعده ويكره له التدخين أو أي معصية)، والحقيقة لا يفعل ذلك إلا المنافق.
ثم يُصر الصديق على أن يظل المدخن يستمتع بـ «التدخين» إلا أن يُكَرِهُه الله فيه، فيقول:
(صدقني الله سيصرفها عنه لأنني متأكد إذا صدقنا مع الله وتوكلنا عليه الله يشرح صدورنا ويهدينا طريق النجاة من المعاصي الصغيرة)
لا يا صديقي:
لم تعد «معاصي صغيرة»، لقد أصبحت بهذا الفهم الجاهلي من «أكبر الكبائر»، لأن صاحبها يُصر على معصية الله ويستهزأ بأحكام شريعته، بدعوى أن رحمته واسعة!!
وهذا المقال أيضا لـلصديق Lahcen Bendriss الذي أُعجب بتعليق «عمار».
لقد أردت على عجالة أن أنهى عن «منكر» أرى أن كثيرًا من المسلمين يعيشون بداخله «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»
محمد السعيد مشتهري