يبدأ «هوس التأويل» والناس في بطون أمهاتهم، يَتَغذّون من دماء آبائهم الثقافية والمعرفية، ثم يخرجون إلى الدنيا مقلدين تابعين، لا يعلمون شيئًا غير الذي تعلمته حواسهم في البيئة التي ولدوا فيها.
«وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً – وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ – لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
إن الفضل في تعلم الوجود البشري مختلف العلوم والثقافات، من لدن آدم وإلى يومنا هذا، يرجع إلى «الآباء»، لأنه يستحيل أن يُعلّم الإنسان نفسه قبل أن يكبر وتصبح لديه ملكة تفعيل «وسائل الإدراك»، لتحصيل العلوم والمعارف بحرية كاملة.
ولذلك نجد أن السياق لم يستخدم بالنسبة لوسائل الإدراك فعل «الخلق» وإنما استخدم «الجعل»، فقال تعالى:
«وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ»
لبيان أن وسائل الإدراك تنمو وتتفاعل وتتطور مع حركة الحياة وتطورها وتقدمها.
وهل يُنكر عاقل ذلك؟!
إذن نستكمل الحديث مع «العقلاء».
أولًا:
عندما يكبر الإنسان ويفهم كيف يقوم بتفعيل وسائل إدراكه لتحصيل العلوم والمعارف، يكون قد تمت أصلًا برمجته على نظام «التشغيل الآبائي» الذي يجعله يعيش على ملتهم ومعارفهم وثقافاتهم وعاداتهم، ويُقتل في سبيلها، دون أن تكون عنده أي رغبة في التغيير.
أليس هذا هو واقع «الآبائية» على مر العصور وإلى يومنا هذا؟!
ولذلك عندما أنزل الله تعالى الرسالات، وأمر الناس اتباعها، كانت العقبة الكؤود أمام الرسل، وبدون استثناء، هي «الآبائية»، لذلك نراهم قد اتفقوا على رد واحد:
* «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا»
* «حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا»
وفي المقابل يأتي الرد عليهم:
* «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ»؟!
* «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ»؟!
والسؤال:
لا شك أن الله تعالى يعلم تأثير «الآبائية» على الوجود البشري، وسيعذر أي إنسان يموت قبل بلوغه النكاح واكتمال رشده ويدخله الجنة، ولكن:
لماذا يحاسب الله من بلغوا النكاح واكتمل رشدهم، وهم ما زالوا مثل من ماتوا ودخلوا الجنة، يعيشون بنفس نظام «التشغيل الآبائي» الذي تمت برمجتهم عليه، ثم يقول لهم إن آباءكم:
«لاَ يَعْقِلُونَ – لاَ يَعْلَمُونَ – لاَ يَهْتَدُونَ»؟!
ولقد حملت الآيتان الجواب على هذا السؤال، وهو ما يُعرف بـ «مفهوم المخالفة»:
أي أنتم الآن قد بلغتم النكاح واكتمل رشدكم، فعليكم أن تعقلوا وتعلموا وتهتدوا بهدي الكتاب الخاتم الذي حمل «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسولي محمد.
والسؤال:
وهل هناك عاقل ينكر مسؤولية كل إنسان عن تديّنه بعد بلوغه النكاح واكتمال رشده؟!
إذن نستكمل حديثنا مع «العقلاء».
ثانيًا:
ولذلك يستحيل أن يترك الله الإنسان الذي بلغ النكاح واكتمل رشده، دون أن يمده بالأدوات والإمكانات التي تساعده على الوقوف على صدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسوله محمد، عليه السلام.
وطبعا تأتي «اللغة العربية»، التي نزلت بها هذه «الآية القرآنية العقلية» في مقدمة الأدوات التي يجب أن تكون محفوظة من أي تحريف لها، حتى لا يأتي الإنسان يوم القيامة ويقول لربه إنه وجدها مُحرّفة لذلك لم تبعها.
وعندما نص الله في كتابه الخاتم على تعهده بحفظ «التنزيل الحكيم»، لم يحمل النص الدال على هذا الحفظ كلمة «التنزيل» ولا كلمة «الكتاب» ولا كلمة «القرآن»، وإنما حمل كلمة «الذكر»، لماذا؟!
لبيان أن كل «كلمة»، في أي لغة من لغات العالم، لا يمكن فهم معناها إلا إذا كان «مُسَمَّاها» مطبوع في قلب الإنسان من قبل أن يقرأها، وأنه لولا هذا «المُسَمّى» ما استطاع الإنسان أن «تذكر» معنى كلمة واحدة من كلمات لغته.
ولذلك فإن «الذكر» = «الكلمة + مُسَمّاها»:
* ولولا «الذكر» ما «تذكر» الإنسان «معنى الكلمة».
إن «الذكر» = «التفاعل القائم بين الكلمة المسطورة + مسماها المنظور».
* ولولا «الذكر» ما «تذكر» الإنسان «معنى الكلمة».
إن «الذكر» = «كلمة شجرة + صورتها الموجودة في الواقع».
* ولولا «الذكر» ما «تذكر» الإنسان معنى كلمة «شجرة» إذا وجدها مكتوبة في أي مكان.
والسؤال:
وهل هناك عاقل، في أي شعب من شعوب العالم، ينكر هذه الحقيقة؟!
إذن نستكمل حديثنا مع «العقلاء».
ثالثًا:
ولذلك كان من «حكمة التنزيل» أن يرسل الله تعالى الرسل باللغة التي يتكلم بها أقوامهم، وأن تكون الكلمات المنزلة متداولة بينهم وعلى ألسنتهم من قبل بعثة الرسل، وإلا ما فهموا ما يقوله الرسل وما يطلبونه منهم، وهذا ما أفاده قوله تعالى «إبراهيم / ٤»:
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ – إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ – لِيُبَيِّنَ لَهُمْ – فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ – وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ – وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
وهنا يجب أن نتوقف كثيرًا عند هذه «الفاء الاستئنافية» التي بدأت بها جملة:
«فـَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ – وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ – وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
ولماذا جاءت بعد ذكر علة إرسال الرسول بلسان قومه، وهي «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»؟!
والجواب صادم:
ذلك أنه يتوقف على هداية الناس وضلالهم، بعد بعثة رسول الله محمد، أن يكونوا على علم بلغة القرآن العربية، وتفاعل كلماته «المسطورة» مع مُسَمَّياتها «المنظورة»:
أي أن يكونوا على الفهم الواعي لحكمة استخدام كلمة «الذكر»، وليس غيرها، في سياق تعهد الله بحفظ «التنزيل الحكيم» إلى يوم الدين.
والسؤال:
هل يمكن في يوم من الأيام، أو في عصر من العصور، وعلى مستوى شعوب العالم، أن يستغفل إنسان شعبه ويفصل بين مكونات «الذكر»، أي يفصل بين «الكلمة» و«مُسَمّاها»، فإذا بهم يُصبحون فيجدون أنفسهم:
يُسَمّون «الحصان» حمارًا، ويُسَمّون «الشجرة» نخلة، ويُسَمّون «الخنزير» بقرة من أجل أن يأكله الناس الذين يُحرّمون أكله؟!
طبعا هذا الكلام لا يقول به إلا من أصيبوا بـ «الخرف»، ويعيشون داخل مصحة نفسية، وما أكثرهم اليوم من أصحاب القراءات القرآنية الشاذة، الذين يتحدثون من غرف «الرعاية المركزة» ويقولون:
إن كلمة «الكعبة» معناها القرآن، و«المسجد الحرام» معناه أحكام الحرام، و«الشمس» معناها القمر، و«جيب المرأة» معناه فتحة في عورتها، و«خمار المرأة» معناه الخمر المُسكر الذي تشربه!!
إن هؤلاء المرضى تعاملوا مع «الكلمة القرآنية» بمعزل عن «مُسَمّاها» المحفوظ بحفظ الله له، ثم يستغفلون الناس الذين لا يعلمون، ويرفعون أمامهم راية «هوس التأويل» وهم سعداء!!
وإن العلاج الوحيد، لمثل هذه الأمراض النفسية العقدية الخطيرة، هو أن يكفروا بهذا القرآن الذي يحمل «كلمات» لا وجود لـ «مُسَمَّاها» في قلوبهم، وبذلك يحترمون أنفسهم، فتشفى قلوبهم.
والسؤال:
وهل هناك عاقل يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة العلمية اللغوية، التي جعلت من المستحيل، على مستوى شعوب العالم، أن يفصل إنسان بين «الكلمة» و«مُسَمّاها»؟!
نستكمل حديثنا مع «العقلاء».
رابعًا:
يعلم من له أدنى دراية بـ «علم السياق» أن القرآن نزل يخاطب قومًا كانوا يعيشون معيشة جاهلية، وأن الذين دخلوا منهم في «دين الإسلام»، كان عليهم أن يصححوا أوضاعًا وعاداتٍ كانوا يمارسونها في جاهليتهم.
ومن هذه الأوضاع التي كان على النساء تصحيحها قبل دخولهن في «دين الإسلام» ستر ما حرّم الله كشفه من الزينة والعورات.
وإن من له أدنى دراية بـ «علم السياق» يعلم الفرق بين الأسلوب القرآني «الخبري» والأسلوب «التشريعي»، وأن التشريع قد ينزل لـ «تصحيح وضع» لا «لإنشاء حكم»، ومن ذلك تصحيح لبس «الخمار»، وجعله يستر شعر المرأة المؤمنة وكتفيها وصدرها.
وليست قضيتي في هذا المنشور الدخول في التفاصيل المتعلقة بثياب «المرأة المؤمنة»، فقد سبق أن بينتها في عشرات المنشورات، وإنما قضيتي هي:
كيف فهمت النساء المؤمنات في عصر التنزيل خطاب الله لهن:
* «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»؟!
فهل سبق نزول هذه الآية تشريع بلبس «الخمار» وبيان حدوده؟!
أم أن النساء كن يعلمن ما هو «الخمار» وما هي حدوده؟!
هل سبق نزول هذه الآية بيان لتعريف النساء بما هو «الجيب» وأين يوجد؟!
أم أن النساء كن يعلمن ما هو «الجيب» وأين يوجد؟!
ومثل هذه الآيات التي ارتبطت بظروف بيئية واجتماعية خاصة، يصبح من الضروري الاطلاع على المصادر المعرفية التي نفهم منها ملابسات هذه الظروف، والتي تجيب على السؤال:
لماذا نزل التشريع لـ «تصحيح وضع» لا «لإنشاء حكم»؟!
وتُجمع المصادر المعرفية التي حملتها «منظومة التواصل المعرفي» أن النساء، من باب إثارة شهوة الرجال، كن يُسدلن «ِخُمُرِهِنَّ» على ظهورهن لإظهار جزء من الثدي من فتحة الجلباب، التي كانت تعرف بـ «الجيب»، فنزل القرآن يصحح وضع «الخمار» فقال تعالى:
* «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»
والسؤال:
هل هناك عاقل يُنكر العلاقة المحكمة بين تفصيل «منظومة التواصل المعرفي» للمعنى «المجمل» الذي حمله قوله تعالى:
«وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»
وأنه بدون الوقوف على العلاقة بين الكلمة «الخمار» و«مُسَمَّاها» الذي حملته «منظومة التواصل المعرفي» منذ عصر التنزيل وإلى يومنا هذا، أي الوقوف على «الذكر»، كان من المستحيل أن نجيب على هذا السؤال:
لماذا لم يُبيّن الله في القرآن معنى «الخمار»، ومعنى «الجيب» وأين يوجد؟!
نستكمل حديثنا مع «العقلاء».
خامسًا:
إن من له أدنى دراية بمعنى «التدبر» وأدنى دراية بـ «علم السياق»، يعلم من سياق هذه الآية:
«وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»
أن الله تعالى يستحيل أن يأمر المرأة بضرب «الخمار» على «جيبها» وهي لا تعلم أصلًا ما هو هذا «الخمار» وما هو هذا «الجيب»، حتى يأتي اليوم مرضى «هوس التأويل» ويعلمون النساء معنى الكلمتين!!
«أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»؟!
إن «الجيوب» جمع «جيب»، وجاءت بصيغة الجمع لأن الله يخاطب المؤمنات جميعًا، ذلك أن المرأة ليس لها إلا «جيب» واحد فقط هو الذي عرفته نساء العرب في جاهليتهن، وبعد إسلامهن، وإلى يومنا هذا، وهو:
«الفتحة التي تكون في ثياب المرأة من جهة الصدر، لتُدخل منها رأسها، وتسمى بفتحة الصدر».
وكلمة «الضرب» تأتي في مراجع اللغة العربية بأكثر من معنى، والذي يحدد المعنى المختار هو السياق الذي وردت فيه الكلمة، والسياق الذي وردت فيه الكلمتان «الخمار والجيوب» سياق تصحيح لوضع كانت المرأة تتعمد فيه إثارة شهوات الرجال.
ولذلك يجب أن يكون المعنى المختار من مراجع اللغة العربية يتعلق بسد باب الإثارة بإحكام، وهو هذا المعنى:
«إحكام وضع الخمار، الذي يغطي شعر المرأة وكتفيها وصدرها، بحيث لا يُظهر الخمار ما تحته».
وأقول:
١- إن كل امرأة بلغت النكاح واكتمل رشدها.
٢- ودخلت «دين الإسلام» من بابه الصحيح، باب الإقرار بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد.
٣- أصبح فرض عين عليها أن تضع «الخمار» بهذه الصورة التي نقلتها لنا «منظومة التواصل المعرفي» ومراجع اللغة العربية، وليس بأي صورة أخرى.
٤- فإن لم تفعل:
أ: فإما أنها تحمل «البراهين القرآنية» الدالة على أن «الخمار» يمكن أن يأخذ أي صورة أخرى غير التي عرفتها المرأة المؤمنة في عصر التنزيل، والسابق بيانها، وعليه تتفضل وتضع هذه البراهين في تعليق لها على هذا المنشور.
ب: وإما إنها تحمل فيروس «هوس التأويل»، وتصر على حمله لأنه يُسعدها ويوافق هواها، وفي هذه الحالة فإن الله تعالى، «وليس محمد مشتهري»، يبشرها بعذاب جهنم، ولو كانت من المقيمات للشعائر التعبدية كلها، لأن «دين الإسلام» إما أن يقبله المسلم كله، وإما أن يرفضه كله، وهذا معنى «الله أكبر» التي يبدأ بها المسلم صلاته.
إن «هوس التأويل» ينتشر يومًا بعد يوم، وتتسع دائرته، في غياب «حكمة التنزيل»، وبمباركة المنافقين الذين خاطبهم الله تعالى بقوله:
«أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
ولذلك، ومن باب «النهي عن المنكر»، أرفقت بالمنشور غلاف هذا الكتيب الذي لا تزيد عدد صفحاته عن «٣٨» صفحة، أما محتواه فلا يستحق الرد.
محمد السعيد مشتهري