من أصول البحث العلمي، أن يبدأ الباحث بعرض منهجه، ويحدد مشكلته، ويضع الفروض، ويختبرها، ليقف على مدى صحتها، ويُعرّف المصطلحات، ويذكر المراجع العلمية وحجيتها.
ولقد كتب الأستاذ “نضال الغطيس” بحثا بعنوان: “ختان الذكور جريمة وافتراء على الإسلام”، واستند في بحثه إلى المرجعية الدينية والعلمية، فأردت أن أعلق على الشق الثاني من العنوان، وهو قوله: “وافتراء على الإسلام”!!
إن “التحريم” لا يكون إلا بنص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، ومعظم أصحاب مشاريع التجديد، في الفكر الإسلامي، يأتون بالنص القرآني، قطعي الثبوت، ثم يوظفون دلالته الظنية لخدمة توجهاتهم الفكرية، وسنرى هذا التوظيف في ما يلي:
1- اعتبر الباحث أن اختلاف المفسرين حول معنى “الابتلاء” في قوله تعالى في سورة البقرة [الآية 124]: “وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ”، يسقط حجية من ذهبوا إلى أن هذا “الابتلاء” هو “الختان”!!
أقول: الحجة في الأدلة والبراهين، وليست في اختلاف المفسرين!!
2- استدلال الباحث على تحريم “الختان” بآيات تتحدث عن “خلق الإنسان في أحسن تقويم”، وعن حرمة “تغيير خلق الله”، وحرمة “سفك الدماء والبغي والعدوان”.
أقول: فأين الدليل [قطعي الدلالة] على حرمة “الختان” في كل الآيات التي استدل بها؟!
قاعدة: إننا إذا فتحنا باب استنباط “الأحكام القرآنية”، على أساس “الدلالات الظنية”، لفتحنا باب الهوى على مصراعيه، فالذي هواه مع “المنع” يستطيع استنباطه من القرآن، والذي هواه مع “الإباحة” يستطيع استنباطها من القرآن…، ومن يرى إباحة جراحات التجميل، ونقل الأعضاء من الأحياء، يستدل بنفس الآيات، لأنه يرى أن في هذه الجراحات “حسن تقويم”، يعين الإنسان على أداء وظيفته في الحياة بطريقة أفضل، وقد يرى آخرون خلاف ذلك!!
وأنا أسال: هل إذا أجمع المفسرون على وجوب “الختان” سيصبح فريضة شرعية؟!
لقد كان على الباحث، أن يحدد أولا حجية مرجعية [كتب التفسير]، وهل هي [بالنسبة له] مصدر تشريعي أم لا، حتى لا يرهق نفسه في وضع فروض جدلية، تكون ساقطة أصلا، فيُدخل نفسه في متاهات اختبار الفرض الجدلي، ويطرح أسئلته، ويقع في إشكالات أكثر وأكثر، وقطعا سيجد من يرد عليه بأدلة من نفس المصدر التاريخي الذي استند إليه…، فهل يمكن أن تستنبط أحكام القرآن بهذه الطريقة العشوائية!!
3- اتخذ الباحث بعض الآيات القرآنية لإثبات حجية “الأحاديث”، التي لا تتعارض مع القرآن!! وهو يُذكرني بحوار دار بيني وبين د/ موسى شاهين لاشين، رئيس مركز السنة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية [سابقا]، قال لي فيه:
أعلم أنك ترفض الاستدلال بالأحاديث جميعها، وقد جئت بالبراهين القرآنية الدالة على عدم حجيتها، حتى ولو وافقت القرآن، ولكن هناك من ثبتت عنده حجية “الأحاديث”، ويستند في ذلك أيضا إلى القرآن!! قلت له: سأرسل لك دراسة تفصيلية، أثبت فيها أن المدافعين عن حجية “الأحاديث”، وظّفوا الآيات القرآنية حسب هواهم، عن طريق “دلالاتها الظنية”!!
لقد أدخل الأستاذ نضال الغطيس نفسه في عش الدبابير عندما اتخذ الأحاديث مصدرا تشريعيا، بدعوى عدم معارضتها للقرآن، وذهب إلى أن أكثر الروايات ضعيفة…، وطبعا أهل الحديث لن يتركوه، وعندهم حق في ذلك، لأنه هو الذي دخل “عشهم” بإرادته!!
إن مسألة التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية، فسيأتي له أهل الحديث بما يثبت صحة الضعيف، وعدم معارضته للقرآن!!
لذلك أعجب، كيف يتضمن بحث علمي، يستند إلى القرآن، “أحاديث” تؤيد وجهة نظر الباحث في تحريم “الختان”؟!
الحقيقة هذا جعلني أشك أن يكون الأستاذ نضال قد درس علم الحديث، وعرف “متاهاته”!!
4- أما عن مرجعية “الفقه”، فهي أكبر عش للدبابير دخله الباحث!!
5- وحسب مشروعي الفكري، أرى أن مسألة “الختان” من المسائل العلمية [الطبية] التي يجب أن يُرجع فيها إلى أهل الاختصاص، حسب ظروف كل حالة، وحسب البيئة المناخية لكل بلد، فالمناطق الحارة غير الباردة…، فهي ليست من المسائل التي يصدر فيها تشريع
عام، فهناك حالات قد تحتاج إلى هذه العملية في الكبر، وهناك بلاد حارة قد تكون هذه العملية ضرورة، وقد لا تكون ضرورة في البلاد القطبية…، المهم الذي يقرر هذا هم أهل الاختصاص!!
* “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [174] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [175] النساء