نحو إسلام الرسول

(1299) 29/8/2019 «مقال الخميس» «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ»

يعيش الإنسان، منذ ولادته وإلى أن يموت، داخل منظومة من «الاختبارات والابتلاءات والفتن»، ولكنه لا يشعر بها إلا عند الحوادث والكوارث، ولذلك قال الله تعالى:

* «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا – أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ»؟!

والفرق بين «الاختبار» و«الابتلاء» و«الفتنة» هو:

أن أول طريق «الفتنة» يبدأ بـ «الاختبار»، ثم بـ «الابتلاء» والذي هو المحور الأساس في هذا لطريق، ثم تأتي «الفتنة» وهي أشد أنواع الاختبارات والابتلاءات.

ولذلك جمع الله بين الابتلاء والفتنة عند بيان أن هذا الطريق يشمل الخير والشر، فقال تعالى:

«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ – وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً – وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»

أولا:

بعد أن خاطب الله الناس جميعا بقوله تعالى:

«أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ»

وجه الخطاب للذين «قالوا آمنا» لبيان أن «الفتنة» هي التي ستكشف عن الصادق منهم من الكاذب، فقال تعالى:

* «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ – فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا – وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»

إنه قانون عام، وسنة كونية، وإيمانية، واجتماعية:

أن يُفتن «الإيمان» كما تَفتن النار الذهب للكشف عن جودة معدنه، وما إذا كانت هناك عناصر غريبة عالقة به.

ولم يخرج هذا المفهوم عن الأصل اللغوي لمادة «ف ت ن» الذي يدل في عمومه على الابتلاء والاختبار، كذلك لم يخرج عن معناه في السياق القرآني.

يقول الله تعالي «الذاريات / ١٣-١٤»:

«يَوْمَ هُمْ – عَلَى النَّارِ – يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ – هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ»

ويقول الله تعالى «الجن / ١٦-١٧»:

* «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ – لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ – وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ – يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً»

ونلاحظ هنا أن جملة «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» جاءت في سياق بيان نعم الله على الذين «اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ»، وأن الله تعالى جعل نعمة «لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً» فتنة لهم حتى يحذروا ولا يصيبهم «الغرور».

ثانيًا:

إن «الإيمان» أمانة في قلب «المؤمن»، والذي وضعه هو المؤمن نفسه، يوم اطلع على «دلائل الوحدانية»، وشهد «شهادة علمية» أن لا إله في هذا الكون إلا الله، وقرر أن يُسلم وجهه لله تعالى.

وبعد أن أسلم القلب وجهه لله تعالى، يتحرك صاحبه بين الناس بمقتضيات هذا الإسلام التي تستمد طاقتها من نور الإيمان، ولذلك يستحيل أن ينفصل الإسلام عن الإيمان إلا في حالة «النفاق».

وعندما يتحرك المسلم صادق الإيمان بين الناس بمقتضيات إيمانه وإسلامه، فإن النتيجة الطبيعية أن يكون في صدام دائم مع «ما هو كائن» في حياته بسبب أنه يريد أن يعيش حسب «ما يجب أن يكون» وفق ما أمره الله.

والسؤال:

هل هذا الكلام النظري، السابق ذكره، له واقع في حياة المسلمين؟!

هل تربى «المسلمون» على الفهم الواعي لـ «الفتنة»، وأن عليهم إدراك أنهم يعيشون داخل منظومة من «الاختبارات والابتلاءات والفتن» وعليهم مواجهتها بـ «ما يجب أن يكون»؟!

أم أنهم أصلا خارج دائرة «الفتنة»، لغياب «الإيمان الخالص» عن قلوبهم فكانوا من الذين قال الله تعالى فيهم «العنكبوت /١٠»:

* «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ – فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ – جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ – وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ»

«جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ»: فهؤلاء قالوا «آمَنَّا بِاللَّهِ» بما آمن به المؤمنون، وعندما تعرضوا للأذى بسبب قولهم هذا، كفروا بما قالوه ليرفع عنهم الناس العذاب.

ثالثًا:

وعندما يقول الله تعالى:

* «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»

– «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»: أين هم عند الابتلاء؟!

* «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ»

– «قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ»: لا نسمعها من المسلمين إلا في حالة نقص الأنفس فقط، وكأن «مصيبة الجوع» لا تستلزم أن نقول «إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ»؟!

ولذلك نادرا أن نجد بين المسلمين من استحقوا هذه النعمة:

* «أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»

ونادرا أن نجد بين المسلمين من يربط بين جملة «إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ» بجملة «وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»، وعلاقتها بالابتلاء والفتنة، في قوله تعالى:

«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ – وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً – وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»

ونادرا أن نجد بين المسلمين من أصبحت مسيرة حياتهم وحياة أولادهم تتحرك داخل منظومة «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» لا تغيب عن قلبوهم لحظة، كيف والأجهزة المحمولة بجميع أنواعها لا تغيب عن أبصارهم «دقيقة»، «وبلاش أقول ثانية».

– فهل تعرف أحدًا من هؤلاء النادرين؟!

رابعًا:

لقد غاب عن حياة المسلمين الفهم الواعي لقوله تعالى:

* «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ – وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً – وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»

وعاشوا حياتهم، هم وأولادهم وأحفادهم، خارج منظومة «الاختبارات والابتلاءات والفتن»، ولكن أخطر ما في هذه «الفتنة» التي لم يدركوا مراحلها التي مرّوا بها، من اختبارات وابتلاءات:

أنهم تعودوا العمل بأحكام لا يعلمون مصدرها، ثقة منهم في إمامهم السلفي، أو القرآني، أو التنويري، ومنهم من ماتوا وهم على هذا الحال، وكان مصيرهم جهنم.

إن العذر الوحيد الذي يقبله الله تعالى، حسب الفهم الواعي للسياق القرآني، أن يكون هذا المقلد بغير علم ممن لا يعرفون القراءة والكتابة، وهذا أمره أصلًا مفوضًا إلى الله تعالى.

إن أكبر فتنة لا يعلم المسلمون عواقبها في الدنيا والآخرة، العمل بحكم شرعي قبل البحث عن مصدره، والوقوف على البراهين القرآنية التي تؤكد وجوب العمل به.

ذلك أن هذا القرآن «كلام الله» واجب الاتباع، والإصرار على عدم العمل بـ «حكم واحد» من أحكامه كفر بالله تعالى، وهل بعد «الكفر بالله» من فتنة؟!

خامسًا:

لا يوجد في «دين الإسلام» قوالب عقدية مغلقة، منذ ولادة الإنسان وحتى وفاته، وإنما توجد رسالة إلهية خاتمة، تحمل «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، والتي أمر الله الناس جميعا اتباعها:

١- فمن نظر في دلائل الوحدانية، وشهد شهادة علمية، أن لا إله إلا الله.

٢- ونظر في «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، وأقر بصدقها، وشهد شهادة علمية أن محمدًا رسول الله.

٣- وقام بتفعيل مقتضى الشهادتين، سلوكًا عمليًا في حياته.

فهذا هو «المؤمن» «المسلم» الذي أسلم وجهه لله تعالى الموجود على هذه الأرض اليوم.

ذلك أن إقرار المرء بصدق «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، معناه أنه يعيش مع رسول الله في عصر التنزيل، ولكن من خلال البث المباشر للقرآن الكريم، الذي يقول الله تعالى فيه لرسوله:

* «طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ»

* «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ – أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»

* «إِن نَّشَأْ – نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً – فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»

* «وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ – مِّنَ الرَّحْمَنِ – مُحْدَثٍ – إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا – فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون»

هكذا يتعامل المؤمن الذي أسلم وجهه لله مع القرآن، يعيش مع فعاليات أسماء الله الحسنى وهو يتدبر آياته ويبكي:

* «إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»

سادسًا:

يعيش المؤمن الذي أسلم وجهه لله مع القرآن، ومع فعاليات أسماء الله الحسنى، وهو داخل «الاختبارات والابتلاءات والفتن»، وهو يعلم أن رسول الله محمدًا عندما طلب من قومه أن يُغيّروا «ما هو كائن» في حياتهم، إلى «ما يجب أن يكون» وفق ما أمرهم الله به، اتهموه بـ «الجنون»!!

وهل بعد اتهام رسول الله بـ «الجنون» من فتنة له ولقومه؟!

لذلك نزل القرآن يطمئن رسول الله، وبصيغة القسم:

«ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»

لقد شهد الله تعالى لرسوله محمد بأنه «لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، من قبل أن يموت، ومن قبل أن يُفتن المسلمون في دينهم، ومن قبل عصر تدوين التراث الديني للفرق والمذاهب العقدية والفقهية كلها.

والسؤال:

متى سيخرج من يُسمّون بـ «المفكرين الإسلاميين» من مقابر أئمة السلف، ومتى سيتوقف التابعون عن اتباعهم، ومتى سيدركون جميعًا أنهم قد مروا بمرحلة «الاختبار»، ثم مرحلة «الابتلاء» وأنهم الآن في «الفتنة الكبرى»؟!

هل هناك مؤمن أسلم وجهه لله تعالى، ويعلم حقيقة «الفتنة» التي يعيش بداخلها المسلمون اليوم، ثم يحدثهم عن:

١- أن الرجم من افتراءات بني إسرائيل.

٢- أن عذاب القبر من افتراءات اليهود.

٣- إرضاع المرأة للكبير وهل يكون بأن تحلب اللبن من ثديها ويشربه، أم لابد من التقام الثدي ومصّه؟!

٤- الذي وضع مصطلح «الصحابة» دجالون لتمرير أحاديثهم.

٥- حقد أهل الحديث على أبي حنيفة النعمان.

٦- قراءة فصل في كتاب عن أسماء فروج النساء.

ومثل هذه «السخافات» اليومية الآلاف؟!

إن هؤلاء المتبوعين والتابعين لهم، والمعجبين بسخافاتهم، يستحيل أن يكون «الإيمان» قد دخل قلوبهم، ولا أن يكونوا مدركين لحجم «الفتنة الكبرى» التي يعيشون بداخلها.

الحقيقة أن العيب ليس في «المتبوعين» وإنما في «التابعين» الذين ينشرون ما لا يعلمون، ويناقشون ما يجهلون، ويُعجبون بما يشتهون.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى