نحو إسلام الرسول

(1290) 27/6/2019 «مقال الخميس» عندما يغرس «الأب» البذور وترويها «الأم» بإيمانها

في سياق آيات سورة الأعراف، يبيّن الله للناس أصل الوجود البشري فيقول تعالى «الآية ١٨٩»:

* «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ – وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا – لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا»

أولًا:

لقد خلق الله «الإنسان» بغريزة حب الشهوات، ومنها الميل المتبادل بين الرجال والنساء، الذي يقوم عليه فعالية «آية الزواج»، حيث يضع الرجل ماءه في رحم المرأة، فترويه بدمائها، ويخرج «الإنسان» إلى الوجود بإذن الله وأمره.

فيقول الله تعالى بعدها:

* «فَلَمَّا تَغَشَّاهَا»:

وهو تعبير بلاغي بديع، يبيّن في كلمة واحدة تفاعل الغريزة الجنسية بين الزوجين:

– فـ «الغشاء»: غطاء الشيء الذي يستره من فوقه.

– و«الغاشية»: الظلة التي تظل الإنسان وتغطيه.

– و«التغشي»: كناية عن المباشرة «الجماع».

١- إن «المباشرة» التي تتم بين زوجين مؤمنيْن، تختلف جذريًا عن التي تتم بين زوجين غير مؤمنيْن، فالأولى تقوم على تفاعل قلبيْن بدافع إيماني مقدس، والثانية تقوم على التقاء جسدين بدافع غريزي تحكمه الشهوة، وقد يصيبه الشذوذ.

٢- عندما تقوم «آية الزواج» على قاعدة إيمانية إسلامية تحكمها «تقوى الله»، فإن الرجل سيغرس «بذرته» في أرض صالحة حرثها طيب، فتدبر:
«نِسَآؤُكُمْ – حَرْثٌ لَّكُمْ – فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ – وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ – (وَاتَّقُواْ اللّهَ) – وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ – وَبَشِّرِ (الْمُؤْمِنِينَ)»

ويعبر القرآن عن ثمرة هذا الحرث بتعبير بليغ، لا يصدر إلا عن إله يعلم السر وأخفى، فيقول تعالى بعد جملة «فَلَمَّا تَغَشَّاهَا»:

* «حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً»:

وهو بيان لطبيعة الحمل في مبدئه، والذي لا تشعر به المرأة، لذلك قال تعالى بعدها:

* «فَمَرَّتْ بِهِ»:

كأنها مرت على حملها دون أن تراه، أو أن تشعر بما يحدث داخل رحمها من تفاعلات في غاية التعقيد يعلمها أهل الاختصاص.

٣- ثم يتطور الحمل رويدًا رويدًا حتى «يثقل»، فتعرف المرأة أنها «حامل»:

ولا يوجد في الوجود البشري زوجان، يتمنيان لأولاد إلا كل خير وصلاح، سواء كانا يقصدان صلاح «الدين» أو صلاح «البدن»، كلٌ حسب ملته والغرض من دعائه، فقال تعالى:

* «فَلَمَّا أَثْقَلَت – دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا – لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً – لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ»

– «فَلَمَّا أَثْقَلَت»: شعرت الأم بـ «الحمل».

– «لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً»: ذكرًا أو أنثى.

٤- ثم يأتي بيان طبيعة النفس البشرية، التي لا تعرف «ربَّها» إلا عند الضرورة والحاجة، وبعد أن تحصل على حاجاتها تكفر بـ «ربِّها»:

* «فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً – جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا – فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ»

يخرج المولود إلى الدنيا «صَالِحًا»، ثم تأتي البيئة التربوية «الآبائية» فإما تحافظ على صلاحه أو تفسده، وسياق الآية يتعلق بالبيئة الكافرة المشركة، لذلك ختم الله هذه المجموعة من الآيات «الأعراف: ١٨٩-١٩١» بقوله تعالى:

* «أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ»؟!

وهذه هي البداية:

ثانيًا:

يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين أسلموا وجوههم لله تعالى، يُبيّن لهم القاعدة التي يجب أن تقوم عليها «عقود النكاح»، لبناء «مجتمع الإيمان والعمل الصالح»:

* «وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ – وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ»

* «وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ – وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ»

* «أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ – وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ»

* «وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»

١- «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»: فهل «تذكر» المسلمون الذين ورثوا تدينهم عن آبائهم بغير علم ولا وعي، ما بيّنه الله في كتابه من أحكام النكاح وعملوا بها؟!

إن معظم عقود النكاح، «إن لم تكن كلها»، عقود طائفية مذهبية، فالسني يرى بطلان عقد نكاحه من شيعيّة، والشيعي يرى بطلان عقد نكاحه من سُنيّة، وهذا بالنسبة للمتمسكين بعقائدهم وأحكام مذاهبهم الفقهية.

٢- أما بالنسبة لعامة المسلمين الذين لا يعلمون شيئًا عن «دين الإسلام»، ولا عن أحكام القرآن، فهؤلاء لا تحكمهم غير المقاييس المادية الدنيوية، من وجهة نظر طرفي عقد النكاح، بصرف النظر عن ملة كل طرف ومدى تدينه!!

إن المهم عند هؤلاء، هو أن يعقد «المأذون» عقد النكاح وهو يرى بأم عينيه العروس سافرة متبرجة كاشفة كل العورات التي حرم الله كشفها، ومع ذلك يقول عن هذا العقد:

«على كتاب الله وسنة رسوله»

ليكون بذلك عقدًا إسلاميًا، ويُكتب في قسيمة الزواج:

الديانة: «مسلم – مسلمة»

ثالثًا:

إن «الأب» الذي يغرس بذرته في رحم زوجه، لن يكون له أي دور، خلال فترة الحمل والرضاعة، في تربية هذه «البذرة» ورعايتها، فالأم هي التي ترافق الطفل دوما، وهي التي تتحمل مسؤولية رعايته كاملة.

١- خلال هذه الفترة التي قد تصل إلى ثلاث سنوات، وحسب أحدث الدراسات العلمية، تتكون شخصية الطفل، فـ «الجنين» يأخذ من «الأم» كل شيء، وليس «الغذاء» فقط، ويتأثر بجميع أحوالها الفكرية والنفسية والعصبية، حتى الأصوات المرتفعة التي تصدر منها.

* يرجع في بيان ذلك وأدلته إلى عشرات المراجع المنشورة على الإنترنت، والتي يصعب الاستشهاد بها في منشور.

٢- كما أثبتت التجارب المعملية، أنه إذا أُخذ جزء من الحمض النووي للشخص «أ»، من خلال نخاع العظم مثلا، ووضع في الشخص «ب»، فإن «ب» سيحمل بعض صفات «أ»، بسبب سريان حمض «أ» النووي في دم ونخاع «ب»، الأمر الذي يحدث مع الجنين عن طريق أمه.

٣- ولذلك فإن من أكبر المصائب التي يُبتلى بها «الجنين» وهو مغلوب على أمره، أن تكون أمه «مُدخنة»، أو أن يكون أبوه «مدخنًا»، فتتأثر الأم غير المدخنة بالتأثير السلبي!!

لقد سجلت التقنيات الحديثة صورًا تُظهر حركات لا إرادية للجنين أثناء تدخين الأم، وكأن الجنين يحاول دفع السموم التي تصل إليه، الأمر الذي يؤكد تأثر الجهاز العصبي المركزي للجنين بتصرفات أمه.

٤- فهل كان نوح، عليه السلام، يعلم أن البيئة الفاجرة الكافرة يستحيل أن يخرج منها مؤمن صالح، ولذلك طلب من ربه أن يهلك كل من على الأرض من الفجرة الكافرين:

«وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»؟!

ويخرج «الجنين» من بطن أمه، وهو يحمل كثيرًا من صفاتها، ويظل في حضنها، ويكبر، وتنفذ جميع طلباته، الأمر الذي يجعل الأولاد مرتبطين بأمهم عاطفيًا وفكريا ومعرفيًا خلال فترة حضانتها لهم، الأمر الذي جعل الشاعر يقول:

* «الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق»

رابعًا:

فهل معنى هذا أن الأولاد معذرون في كفرهم وفجورهم، لأنهم خرجوا إلى الدنيا يحملون جينات الكفر والفجور الموروثة عن آبائهم؟!

والجواب:

١- إن الإنسان الذي يموت قبل بلوغه النكاح واكتمال رشده بثانية واحدة من الزمن، سيدخل الجنة بغير حساب.

٢- بعد بلوغ الإنسان النكاح واكتمال رشده يصبح مسؤولا مسؤولية كاملة عن «تدينه»، بدليل أنه يستطيع بعد ساعة من بلوغه النكاح، أن يتزوج ويصبح «أبًا» مسؤولًا عن رعاية زوجه وأولاده والإنفاق على معيشتهم.

فلماذا لا يكون مسؤولا عن تصحيح مسار تدينه، إذا لم يكن هو المسار الصحيح، بالنظر إلى دلائل الوحدانية التي تشهد بوجود خالق واحد أحد صمد، لا إله إلا هو، هذه الدلائل التي تقوده منطقيًا إلى الإيمان بصدق «النبوة»؟!

٣- إن من العلوم الحديثة علم «ما فوق الوراثة»، أو «ما فوق الجينات»: «الإيبيجينيتك»:

أ- «علم الجينات»:

«الجينات» هي الوحدات الرئيسية المكونة لـ «الحمض النووي» والتي تحمل صفات الإنسان الوراثية.

و«علم الجينات» هو العلم الذي يدرس التغيّرات التي تحدث في سلسلة الحمض النوويّ الـ «DNA».

ب- «علم ما فوق الجينات»:

هو علم يدرس العوامل البيئيّة التي «تُنَشّط» أو «تُثَبّط» عمل «الجينات»، أي أن «الجين» نفسه لا يحدث فيه تغيير، أما الذي يحدث هو تنشيط أو تثبيط «الجين» باختلاف البيئة التي يعيش فيها الإنسان.

ج- «مسؤولية الإنسان الدينية»:

بعد أن أثبت العلم الحديث أن الإنسان قادر على «تنشيط» جين «الإيمان»، وتثبيط جين «الكفر» الوراثي، إن أراد ذلك، لم تعد «الجينات الوراثية» هي التي تتحكم في حياة الإنسان وتدينه.

د- لماذا يوجد ابن صالح وفي نفس الوقت ابن غير صالح؟!

إن الابن الصالح قام بتغيير بيئته غير الصالحة، وانتقل ليعيش في بيئة صالحة، فحدث «تثبيط» للجين الوراثي غير الصالح، و«تنشيط» للجين الوراثي الصالح.

أما الابن غير الصالح فظل يعيش في بيئته غير الصالحة، فحدث «تنشيط» للجين الوراثي غير الصالح، و«تثبيط» للجين الوراثي الصالح.

وقد سبق الحديث عن هذا الموضوع في أكثر من منشور عام «٢٠١٨م».

خامسًا:

ولذلك لن يقبل الله تعالى عذر أحد غفل عن «الوحدانية»، وذلك لقوله تعالى «الآية ١٧٢»:

* «أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»

ولن يقبل الله عذر أحد اتبع آباءه بغير علم «الآية ١٧٣»:

* «أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ»

ولذلك كان مصير هؤلاء جهنم «الآية ١٧٣»:

* «أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»

وصدق الله العظيم القائل:

* «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»

إذن، وفي سياق وجوب تغيير المسلمين ما بأنفسهم:

١- لماذا ظل المسلمون قرونًا من الزمن داخل دائرة «الفكر الإسلامي»، سعداء بمقبرة «التراث الديني المذهبي»، لا يملكون غير المؤلفات والفيديوهات والمنشورات والبوستات «الدينية»، التي لم «ولن» تحقق في يوم من الأيام الشهادة على الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؟!

٢- ما أهمية أن نحدث الناس عن تراثهم الديني، وعن أئمة التفسير والحديث والفقه..، مدحًا أو ذمًا، ونحن نعيش داخل مصيبة عقدية واجتماعية وأسرية..، إلا إذا كنا مغيّبين عقليا، من الذين قال الله تعالى فيهم:

«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ»؟!

٣- لماذا ظل المسلمون قرونا من الزمن، لا يُفكرون في تغيير نظام وأسلوب «الزواج»، بهدف إقامة مجتمعات إيمانية صالحة، تعمل على:

– «تنشيط» جينات الإيمان والوحدانية والعمل بأحكام القرآن.

– «تثبيط» جينات الكفر والعمل بأحكام الشيطان؟!

٤- إن «الأب» الذي غرس بذور الأولاد في رحم «الأم»، مسؤول أيضا عن غرس بذور الإيمان والتقوى والفهم الواعي لكتاب الله في قلوب أولاده.

وهذا ما يتميز به نكاح «المرأة المؤمنة» التي أسلمت وجهها لله تعالى، لأنها كما قامت برعاية أولادها منذ أن كانوا أجنة في بطنها، تظل ترعاهم «إيمانيًا» بعد خرجوهم إلى الدنيا، وإلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.

٥- إن الأولاد الذين يعيشون في رحاب «أم مؤمنة»، ويستمعون إليها وهي تقرأ القرآن وتعظهم بآياته، وتعلمهم أحكامه، ويشعرون بها وهي تقوم الليل.
إن هذا «البيت المؤمن»، هو الذي قال الله تعالى عنه في سياق وصف جزاء المتقين:

«وَالَّذِينَ آمَنُوا – وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ – أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ – وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ – كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»

والسؤال:

لماذا يُصر المسلمون على أن «ما هو كائن» في حياتهم، يجب أن يكون هو الحاكم على «ما يجب أن يكون» وفق أحكام القرآن؟!

والجواب:

لأن المسلمين دخلوا «دين الإسلام» من باب التدين الوراثي المذهبي، ولم يدخلوه من باب الإقرار بصدق الآية «المعجزة» القرآنية المعاصرة لهم اليوم.

لقد تعامل المسلمون مع نصوص «الآية القرآنية» بأعينهم فقط، بمعزل عن تفعيل آليات عمل قلوبهم: آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى