وإنها لفرصة لإعادة تدبر منشورات الصفحة ومادة الموقع، للوقوف على المنهجية العلمية التي أتبعها، وما تحمله من أدوات لفهم القرآن واستنباط أحكامه.
أولًا:
لقد أقمت توجهي الديني «نحو إسلام الرسول» على منهجية علمية تحمل أدوات لفهم القرآن واستنباط أحكامه، ولم يحدث يومًا أن خالفت هذه المنهجية أو هذه الأدوات عند كتابة أي منشور أو عند التعقيب على تعليقات الأصدقاء.
ومنذ إنشاء هذه الصفحة وأنا ألاحظ أن كثيرًا من الأصدقاء يُعجبون بموضوعات ولا يُعجبون بأخرى، وطبعا سيخرج علينا من يقول «إنهم أحرار يا أخي»، وأنا أقول إنهم ليسوا أحرارًا.
ذلك أن مخالفة منطق وشروط الحوار العلمي ليست «حرية شخصية» وإنما «جهل» وعدم قدرة على إجراء حوار بأدلته العلمية حول مسائل متعلقة بدين الله وبتدبر القرآن.
وهذه هي نفس الأزمة العقدية التي يعيش بداخلها المسلمون منذ قرون مضت.
إن أصول الحوار العلمي تفرض على طرفي الحوار العلم بالتوجه الفكري لكل منهما، وما هي المنهجية العلمية التي يتبعها، وما هي الأدوات التي يستخدمها في فهم مصطلحات موضوع الحوار.
فعندما يتفق طرفا الحوار على هذه الأصول، لا يحق لأي منهما الاعتراض على النتائج التي توصل إليها الآخر بناء على المنهجية والأدوات المتفق عليها.
وإنما يكون الاعتراض على أن المنهجية والأدوات المتفق عليها بينهما لا توصل إلى هذه النتيجة، أو أن هذه النتيجة قد أثبتت وجود خطأ في المنهج أو في الأدوات.
أي أن الحوار العلمي يقوم على أصول منهجية علمية يجب الالتزام بها، فإذا استطاع طرف مع بداية الحوار هدم أصول ومنهجية الطرف الآخر تسقط النتائج من تلقاء نفسها، ولا يستغرق الحوار دقائق.
والذي يجعل حوارات الفيس بوك تأخذ ساعات هو غياب المنهجية العلمية وأدواتها عن أطراف الحوار.
ثانيًا:
إن افتقاد الحوار العلمي على هذه الصفحة لم يكن يومًا بسبب الأسلوب التهكمي والغليظ الذي أكتب به المنشورات.
ذلك أني طلبت عشرات المرات من الأصدقاء أن يضعوا هذا الأسلوب جانبًا، ونجعل الحوار حول جوهر الموضوع، ثم بعد انتهاء الحوار نبحث أزمة الأسلوب.
الأمر الذي لم يحدث مطلقا، والسبب أنهم لا يملكون المادة العلمية التي يقيمون على أساسها حوارًا علميًا.
إن افتقاد الحوار العلمي على هذه الصفحة يرجع إلى عدم دراية الأصدقاء بلغة القرآن العربية، ولم يحدث يوما منذ إنشاء هذه الصفحة أن تحاور أحد معي حول مسألة «لغوية» وردت في المنشور.
باستثناء حوار الدكتور محمد داوود، أستاذ فقه اللغة العربية، الذي عندما بَيّنت له وجهة نظري في المسألة ذهب ولم يعد.
إن عدم دراية الأصدقاء بلغة القرآن العربية يجعلهم لا يقفون على الأسلوب «المجازي» الذي غالبا أكتب به عنوان المنشور وكثيرا من فقراته، خاصة في سياق «النهي عن المنكر».
ومثال ذلك عنوان المنشور الأخير:
«جهل النساء بلغة القرآن العربية يَحْشُرْهُنّ مع المنافقين»
فيظن الذي يجهل الأسلوب «المجازي» أني أقصد عموم النساء وأن كلهن منافقات، وهذا غير صحيح وغير منطقي، والذي أوقع هؤلاء في هذا اللبس أنهم لم يقفوا على الحكمة من استخدام كلمة «المنافقين» وليس «المنافقات».
إن عدم دراية الأصدقاء بلغة القرآن العربية، جعل «القراءات الشحرورية الإلحادية» تخترق قلوبهم بكل سهولة ويسر، فنرى العجب العجاب في تعليقاتهم وتعليقاتهن.
فنقرأ على سبيل المثال تعليقًا تقول صاحبته:
«النساء هن الأرامل، وسورة النساء بطولها وعرضها توضح ذلك، نحن لسنا نساء»
وأنا أكاد أجزم أن صاحبة هذا التعليق لم تنظر يومًا ولو نظرة عابرة إلى الآية الأولى من سورة النساء وقول الله تعالى:
* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ – اتَّقُواْ رَبَّكُمُ – الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ – وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا»
ثم قوله تعالى بعدها:
* «وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء»
فإذا كان «وَنِسَاء» تعني «الأرامل» تصبح نساء العالم «بنات آدم» قد ولدن من بطون أمهاتهن وهن «أرامل»!!
وهناك عشرات المنشورات تحمل البراهين القرآنية على إلحاد «محمد شحرور» في دلالات الكلمة القرآنية وأحكامها، ومنها منشور:
«نَسَأَ شحرور وأنصاره فأصبحوا نِسَاءً»
ولذلك لا يسعني إلا أن أقول ما قاله الشاعر:
«لقد أسمعت لو ناديت حيًا – ولكن لا حياة لمن تنادي»
أقول هذا وأنا أعلم علم اليقين أن قلوب هؤلاء:
* «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ – فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ – أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ – أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ»
وهل هناك خسارة أكبر من أن يكشفوا بأيديهم عورات الجهل في تعليقاتهم؟!
وهل هناك خسارة أكبر من وصف الله لهم:
«أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»
ثالثًا:
إن «النهي عن المنكر» فرض عين على كل من آمن وأسلم وجهه لله تعالى، وعندما يألف المسلمون المنكرات ويعيشون بها في بيوتهم وأعمالهم وأسواقهم وإعلامهم، فلا تسألني لماذا سيحشرون يوم القيامة «عميًا»:
* «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي – فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً – وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»
* «قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً»
* «قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا – فَنَسِيتَهَا – وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى»
ونلاحظ العلاقة بين الذكر «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي» والآيات «كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا».
إن الذين يقولون، حسب برامج التنمية البشرية:
«أميتوا المنكر بالسكوت عنه»
أي اسكتوا عن النهي عن المنكر لأنه سيموت من تلقاء نفسه.
أقول لهم:
إن صح ذلك يصح إذا كانت دائرة المنكر محدودة، أما إذا كان المنكر يحمله الهواء الذي يتنفس به المسلمون في كل مكان وزمان، يصبح النهي عن المنكر «فرض عين» على كل مؤمن.
والمؤمن الذي لا ينهى عن المنكر تنتفي عنه صفة الإيمان كما أفاد ذلك الأسلوب البلاغي في تقديم النهي عن المنكر على الإيمان بالله في قوله تعالى «١١٠ / آل عمران»:
* «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ – تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ – وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ … الآية»
إن إلف المنكرات أصبح شيئا طبيعيا في حياة المسلمين، والذي ينكر ذلك فاقد البصر والبصيرة، ويؤدي المسلمون وهم داخل هذه المنظومة الحياتية المنكرة الشعائر التعبدية، يُصلّون ويصومون … وهم لا يؤمنون الإيمان الحق الذي يستحيل أن يجتمع مع منكر فعلوه.
لقد انقلب صحابة رسول الله على أعقابهم بعد أقل من ربع قرن، وهم الذين تُسند إليهم «الروايات» المنسوبة إليه والتي أقام عليها أئمة السلف مصدرًا ثانيًا للتشريع ما أنزل الله به من سلطان.
ألا يُعتبر ما فعلوه منكرًا يستوجب النهي عنه بأضعف آليات النهي وهي المقاطعة التامة لهذه المرويات؟!
وعندما سُفكت دماء آلاف المسلمين في موقعة كان الطرف الأول فيها زوج النبي «السيدة عائشة»، والطرف الثاني ابن عم النبي «علي بن أبي طالب»، وكان الطرفان يقيمون الصلوات الخمس في أوقاتها.
ألا يُعتبر ما فعلوه منكرًا يستوجب النهي عنه بأضعف آليات النهي وهي مقاطعة جميع الفرق الإسلامية التي ظهرت على جثث ضحايا الفتن الكبرى؟!
إذن فلماذا يُقاطع الأصدقاء المنشورات التي أعلن فيها صراحة مصير هؤلاء الذين سفكوا الدماء مع سبق الإصرار والترصد؟!
ألم يقل الله تعالى:
«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئًا»
إن جملة «وَمَا كَانَ» مبالغة في نفي فعل القتل من أصوله وفروعه، أي استحالة أن يظل مؤمن على إيمانه إذا قتل مؤمنًا متعمدا، وهذا ما أفاده قوله تعالى:
* «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً – فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا – وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ – وَلَعَنَهُ – وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيمًا»
فهل بعد هذه العقوبات الأربع ممكن أن يظل مؤمن تابعا لفرق من الفرق الإسلامية، والله تعالى يخاطب رسوله محمدًا والذين آمنوا معه ويقول لهم:
* «…وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ – وَكَانُوا شِيَعاً – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
رابعًا:
في الحقيقة أجد قلبي في كل مناسبة دينية يرفض قراءة أو سماع جملة «كل عام وأنتم بخير»، وإن قالها يكون ذلك من باب فقه الدعوة أو السياسة الشرعية!!
فأسأل نفسي:
أي «خير» هذا الذي يتمناه المسلمون أن يظل قائما بينهم من مناسبة إلى أخرى؟!
هل يقصدون «الخير» بمفهومه في السياق القرآني؟!
يستحيل، وإلا إذا كانوا فقدوا البصر والبصيرة.
إذن فهم يقصدون «خير الدنيا» من تمام الصحة والعافية، والنجاح والتوفيق في شؤون حياتهم، ويبقى «ما هو كائن» على ما هو عليه، وعلى «ما يجب أن يكون» أن يلجأ للقضاء.
وأخيرًا
إن ما سبق بيانه من إشارات إلى بعض محاور توجهي الديني «نحو إسلام الرسول»، هو ما أرجو من الأصدقاء الأعزاء دراسته وتتدبر ما يحمله من آيات قرآنية، لعلها تضيف إليهم شيئًا جديدًا.
إلى أن نلتقي إن شاء الله بعد عيد الفطر.
محمد السعيد مشتهري