إن إقامة الوجه للدين حنيفا، واستقامة المؤمن على «دين الإسلام» هو طوق النجاة الوحيد من فتنة إبليس وإغوائه، الأمر الذي لا يتحقق إلا بتربية «النفس المعنوية» في بيئة إيمانية صالحة.
فهل «الذين آمنوا» وصاحبوا رسول الله محمد، عليه السلام، تربوا على إلزام قلوبهم العمل بقوله تعالى «الروم / ٣٠»:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ»
أولًا:
لقد أمر الله رسوله محمدًا والذين آمنوا معه بالاستقامة على «دين الإسلام»، وألّا يلتفتوا بوجوههم «بقلوبهم» عن هذا الدين، مبينًا أنه تعالى قد خلق الإنسان بـ «فطرة» تجعله قادرًا على هذه الاستقامة إن أراد ذلك.
ونلاحظ استخدام كلمة «حَنِيفاً» في هذا السياق، والتي تعني «الميل»، لبيان أن المقصود الميل عن «دين الباطل: الهوى»، والاستقامة على «دين الحق: الإسلام».
ثانيًا:
إن الخطاب لـ «الذين آمنوا» على مر العصور وإلى يوم الدين، بقرينة الآيات التالية «الروم / ٣١-٣٢»:
* «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ – وَاتَّقُوهُ – وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ – وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
والفطرة التي فطر الله الناس عليها، هي التي تُمَيّز الإنسان عن سائر المخلوقات.
إنها «النفس المعنوية» التي تحمل سيرة الإنسان الذاتية، منذ ولادته وإلى أن تفارق جسده عند وفاته.
وعندما يخاطب الله «الذين آمنوا» يصبح فرض عين على كل مؤمن أن يقوم بتربية نفسه «المعنوية»، وأنفس من يعول، على «الإيمان والعمل الصالح»، وأن يستقيم ويثبت على هذه التربية طوال حياته.
بقرينة ورود كلمة «فِطْرَةَ» منصوبة، في الوقت الذي لا يوجد قبلها ما ينصبها، إذن فهناك «فعل محذوف» يُفهم من الجملة وهو فعل الأمر «الْزَم» أيها المؤمن فِطْرَةَ الله التي فطر الناس عليها.
مثال:
عندما يضع الله للأولاد «منهجًا تربويًا» ويأمر الوالدين الالتزام به، فيقول تعالى «النور / ٥٨-٥٩»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا – لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ – وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ – ثَلاَثَ مَرَّاتٍ – مِن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ – وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ – وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاء – ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ – لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ – طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ – كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ – وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
فما هي الحكمة في أن تكون أحكام الاستئذان قبل بلوغ الأطفال الحلم، هي نفسها بعد البلوغ:
* «وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ – فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ – كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
فمن من المسلمين «الْزَم» نفسه وأهل بيته بالاستقامة على فِطْرَةَ الله التي فطر الناس عليها، وربّوا أولادهم التربية الإيمانية العاصمة لهم من أخطر الأمراض النفسية والجنسية المعاصرة؟!
ثالثًا:
والذي يهمنا الوقوف عنده فيما يتعلق بقوله تعالى «الروم / ٣١» هو خطاب الله للرسول والذين آمنوا معه:
* «… وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»
فكيف ينهاهم الله تعالى عن الشرك، والمفترض أنهم هم «الذين آمنوا» واستجابوا لأمر الله بالإنابة «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ»، واتقوا الله «وَاتَّقُوهُ»، وأقاموا الصلاة «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ»؟!
لأن الله خلق «النفس المعنوية» على «سنة الاختيار»، وقد وعد إبليس أن يغوي الناس أجمعين، فقال لله تعالى «ص / ٨٢-٨٣»:
* «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ – إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»
والمؤمن «الْمُخْلَصْ» الذي تربّى على أن يقيم وجهه «لِلدِّينِ حَنِيفًا»، ويستقيم على «دين الإسلام»، هو من عباد الله الذين قال الله لإبليس عنهم «الحجر / ٤٢»:
* «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ»
فالذين خاطبهم الله تعالى بقوله «الروم / ٣١-٣٢»:
* «… وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً … كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!
لو أنهم تربوا وربوا أولادهم «الأنفس المعنوية» على تفعيل مثل هذه الآيات في حياتهم، ما حدثت «الفتن الكبرى» التي امتدت جذورها بين المسلمين إلى يومنا هذا.
رابعًا:
إن «المؤمن الْمُخْلَصْ»: «إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»، يعيش حياته بجناحين، ويعمل على رعايتهما في وقت واحد:
الجناح الأول:
جناح «النفس المادية»: وهو ما تدركه الحواس.
الجناح الثاني:
جناح «النفس المعنوية»: وهو ما لا تدركه الحواس.
ولذلك فإن «المؤمن الْمُخْلَصْ» لا يأكل ولا يشرب كما يأكل ويشرب الكافر، لأن الله تعالى يقول «محمد / ١٢»:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا – يَتَمَتَّعُونَ – وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ – وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ»
إن الأنعام «مُسَيَّرة» بسنن إلهية، تأكل وتشرب، وينشط نشاطها الجنسي في مواسم محددة، لا تختار هي وقتها، ولا تعلم الهدف منه، إنها خُلقت بطبيعة تجعلها تؤدي مهمة معينة.
أما «المؤمن الْمُخْلَصْ» فيعيش حياته يأكل ويشرب، ويتعامل مع زوجه وأولاده، وفي عمله ودعوته … بجناحين:
بـ «النفس المادية، والنفس المعنوية» معًا، لا ينفصلان أبدا.
إن «المؤمن الْمُخْلَصْ» يجعل طعامه وشرابه «النفس المادية» بـ «اسم الله»، أي يجعل لهما «قيمة معنوية» تصاحبهما دومًا، وهذا ما يجب أن يتربى عليه الأولاد في «البيت المؤمن»، وعلى أن «باسم الله» ليست كلمة تقال فقط، وإنما إقرار بفضل الله ونعمه على الإنسان.
خامسًا:
إن «الجناحين»: النفس المادية، والنفس المعنوية، منظومة مترابطة متكاملة يجب أن يتربى بداخلها الأولاد، فيجب أن يكون الطعام والشراب:
١- بعيدا عن خطوات الشيطان «البقرة / ١٦٨»:
* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ – كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً – وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ – إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ»
٢- أن يكون الطعام من حلال «البقرة / ١٧٢»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ»
٣- الحذر من الطغيان «طه / ٨١»:
* «كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ – وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ – فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي – وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى»
٤- أن يكون باسم الله، وتدبروا جيدا هذه المجموعة من الآيات لتعلموا حجم الجرم الذي يرتكبه المسلمون في حق أولادهم «الأنعام / ١١٧-١٢٢»:
* «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»
* «فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ – إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ»
تدبر جيدا «إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ»، وعلاقتها بأحكام الطعام.
* «وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ – وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ – إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ – وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ – إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ»
* «وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ»
* «وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ – وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ – وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ – وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ»
فمن من المسلمين رَبّوا أولادهم على هذه المعاني القرآنية السابقة، ثم انظر بماذا خُتمت هذه المجموعة من الآيات:
* «أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ – وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ – كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا – كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ»
سادسًا:
إن «المؤمن الْمُخْلَصْ» يتعامل مع الشيء المدرك المشاهد «النفس المادية» بنفس درجة الإيمان التي يتعامل بها مع الشيء غير المدرك الذي لا يشاهده.
ذلك أن الإيمان بالغيب إيمان بشيء موجود، وإن لم تدركه الحواس، فعدم الإدراك ليس معناه عدم الوجود، ولذلك كانت أول صفة للمتقين هي الإيمان بالغيب «البقرة / ٣»:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»
إن «المؤمن الْمُخْلَصْ» يخاف الله ولم يره، وهذا ما بينه الله في سياق الحديث عن منظومة «الأحكام القرآنية»، فقال تعالى «المائدة / ٩٤»:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ – لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ – تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ – لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ – فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ – فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
فتدبر: «لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ»
والجنة من عالم «الغيب»، ومع ذلك يؤمن بوجودها المؤمنون، وهم لا يعلمون عنها شيئا إلا على سبيل ضرب المثل، فيقول الله تعالى «مريم / ٦١»:
«جَنَّاتِ عَدْنٍ – الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ – بِالْغَيْبِ – إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً»
فتدبر: «الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ»
إن «النفس المعنوية» يجب أن تتربى على «الإيمان بالغيب» باعتباره شيئًا موجودًا، وليس من عالم الخيال، وعلى أن إيماننا بوجوده قائم على إدراك حواسنا لآثاره، وأن إيماننا بوجود الله قائم على إدراك حواسنا لـ «دلائل الوحدانية».
سابعًا:
يقول الله تعالى «الفجر / ٢٧-٣٠»:
«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي»
فلا تحاسب «نفسك المادية»، وإنما اجعل «نفسك المعنوية» هي التي تحاسبك، وتسألك:
ماذا قدمت لي لأكون «نفسًا مطمئنة»؟!
إذن فعن أي «إسلام» يتحدث المفكرون الإسلاميّون؟!
ولمن يقرؤون «القرآن» قراءة معاصرة؟!
فمن هم هؤلاء أصلًا؟!
وفي أي بيئة إيمانية تربت قلوبكم؟!
وإذا كانوا قد خلعوا ثوب الآبائية والتفرق في الدين، فلماذا إذن يُصرّون على نقد ونقض تراث الفرقة التي ولدوا فيها، إلا إذا كانوا حقًا:
«… مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً … كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!
فهل هناك مؤمن مسلم عاقل، يترك «الفريضة الغائبة» عن حياة المسلمين، وهي فريضة خلع ثوب التفرق في الدين، وتربية أولادهم تربية إيمانية مُخْلَصة، ثم يذهب يُحدثهم عن تراثهم الديني، وما صح منه وما لم يصح؟!
محمد السعيد مشتهري