كتب يقول في تعليق له منذ فترة:
«يا أخي انت زهقتنا في عيشتنا»
وأظن أنه نفس المعنى الذي يشعر به كثير من الأصدقاء الذين هجروا الصفحة وإن لم يُصرّحوا به، فنراهم يُعجبون بالمنشورات «السلمية» التي يُعجب بها السَلفيّون، هؤلاء الذين يغضبون إذا نشرت ما يخالف ما وجدوا عليه آباءهم ويفرحون عندما أنقض الإلحاد!!
ولقد أشرت إلى هذه الأزمة الفكرية «العقدية» في بوست بعنوان «كلمة في المنهج»، ولخطورة هذه الأزمة على الأجيال القادمة كان لابد من مزيد بيان لها.
أولًا:
لقد انتهت «الأمة الإسلامية» من على وجه الأرض بعد ربع قرن من الزمن بقليل، بعدها بدأت شجرة الانقلاب على الأعقاب تمتد فروعها بين المسلمين، وسفكت دماء الآلاف، والنتيجة:
١- إن ما هو كائن في حياة المسلمين، على مستوى العالم، لا علاقة له مطلقًا بـ «دين الله» الذي أمر الناس اتباعه، إنهم يعيشون في عصر الجاهلية الذي عاشت فيه جميع الأمم في فترة ما قبل إرسال الرسل، وهذا ما بيّنه الله تعالي بقوله:
* «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ – قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا – أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ»
فهل اتبع المسلمون «مَا أَنزَلَ اللّهُ»، أم «مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» الذين «لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ»؟!
إن الذي يموت قبل بلوغه النكاح واكتمال رشده فهو في الجنة لأنه ورث تدينه المذهبي وعاش تابعًا مُقلدا لما وجد عليه آباءه.
فإذا بلغ الإنسان النكاح واكتمل رشده، أصبح فرض عين عليه أن يعيد النظر في تدينه الوراثي، وأن يجعل بوصلة تدينه «نحو إسلام الرسول» بعيدا عن «الفُرْقَة والمذهبية»، وإلا سيكون مع آبائه في جهنم.
٢- وعليه فإن طوق النجاة من «الآبائية» أن يتأكد الإنسان من أنه مُقرٌ بـ «الوحدانية»، وبصدق «النبوة»، ثم يبحث عن الرسول الذي حمل رسالة الله إلى الناس ومعها البرهان على صدق نبوته.
ولن يجد أي إنسان على هذه الأرض كتابًا إلهيًا لا يحمل اسم صاحبه، وإنما تحمل نصوصه البراهين على أن صاحبه هو خالق هذا الوجود.
لن يجد غير كتاب الله الخاتم الذي حمل في ذاته «الآية القرآنية» الدالة على أنه من عند الله، والذي يقول الله في أول سورة فيه بعد الفاتحة:
* «ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ»
٣- ثم خاطب الله تعالى الناس جميعًا، الذين يُقرّون بفعالية أسمائه الحسنى في هذا الوجود، ويقول لهم:
– «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا»
– «فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ»
– «وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»
– «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ»
– «وَلَن تَفْعَلُواْ»
– «فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»
فها هي الصورة الإيمانية واضحة تماما أمام كل «ملحد»، وأمام كل «منافق»، وأمام كل «متدين بالوراثة»، وأمام كل «عشوائي» يسير في «الركب» ولا يعلم إلى أين المسير.
ها هي الصورة الإيمانية واضحة تماما:
(أ) الإيمان بصدق الله، وصدق رسوله محمد، وصدق «آيته القرآنية» وتفعيل نصوصها في حياة من آمن وأسلم.
(ب) أو الإتيان بسورة من مثل سور القرآن.
(ج) أو انتظار جهنم.
ثانيًا:
إن الله تعالى لن يرسل «ملائكة» لتركيب «سوفت وير» متطور في قلوب المسلمين، يجعلهم يعملون بما أمرهم به في القرآن.
ولن يرسل الله لهم «مهديًا» يقيم الخلافة على منهاج «أهل السنة والجماعة»، وهو سبحانه الذي حرم التفرق في الدين.
وإنما:
* «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»
١- لقد ورث المسلمون أمراض الشرك والهوى والفُرقة والمذهبية والشهوات المحرمة والهوس الديني، فكيف يقيمون «دين الله» في قلوبهم دون تغيير «السوفت وير» الذي يجعل الله يُساعدهم على تغيير ما هو كائن في حياتهم؟!
فهل هناك مؤمن عاقل يشهد بأن حياة المسلمين الذين يعيشون حوله هي تفعيل لما أمر الله به في القرآن، هذا القرآن الذي يؤمنون بأنه كلام الله؟!
إذن فما جدوى القراءات القرآنية السلفية والمعاصرة والتنويرية وهي تعمل داخل منظومة «فكرية كلامية منبرية» لا واقع لها على الأرض، طبعا باستثناء القراءات الجهادية والداعشية؟!
٢- فلماذا لا يقوم المسلمون بأنفسهم بعمل تحديث «update» وتطوير «upgrade» لـ «سوفت وير» قلوبهم وفق ما يجب أن يكون، تماما كما يفعلون مع أجهزة الكمبيوتر؟!
إن الكمبيوتر، بجميع أنواعه وتقنياته، جهاز إلكترونيّ يستقبل بيانات ويُخرج بيانات، وتتم هذه العمليات الإلكترونية عن طريق، مع تبسيط المعلومة والمثل الذي يعقبها:
* هارد وير: وهو كل أجزاء الكمبيوتر، الداخلية والخارجية، التي يمكن لمسها باليد.
المثل: جسم الإنسان بجميع أعضائه الداخلية والخارجية.
* سوفت وير: وهو الإلكترونيّات التي تتحرك داخل أجزاء الكمبيوتر، تحمل أنظمة تشغيله المبرمجة بلغات مختلفة، والتي لا يمكن لمسها باليد.
المثل: كل ما هو «معنوي» لا يعمل جسم الإنسان بدونه، وورد ذكره في القرآن، والذي على أساسه سيُحاب الإنسان، كالنفس والقلب والفؤاد واللب.
٣- ويستحيل أن يعمل الكمبيوتر بدون ذاكرة معلوماتية دائمة «الهارد ديسك» يتوقف حجمها حسب الهدف من استخدامه.
المثل: «القلب» المعنوي» وتناغمه مع «الفؤاد»
٤- ويستحيل أن يعمل الكمبيوتر بدون ذاكرة معلوماتية مؤقتة «الرام» هي التي تستدعي المعلومات من «الهارد ديسك» للاستخدام المؤقت، ويمكن استبدالها بمعلومات أخرى في أي وقت.
المثل: الدماغ «المخ» الذي يستدعي المعلومات من القلب ليتعامل معها في أقل من الثانية، وسعة تخزينه لهذه المعلومات سعة شبكة الإنترنت العالمية.
ثم تأتي أهم مرحلة وهي الهدف من ضرب الأمثلة السابقة:
٥- ويستحيل أن يعمل الكمبيوتر بدون عقل مدبر «البروسيسور» الذي يقوم، بناء على طلب «مستخدم الكمبيوتر»، باستدعاء الملف من «الهارد ديسك» ووضعه على «الرام» لمعالجته حسب نوعه وحجمه.
فإذا كان، على سبيل المثال، ملف صوت يقوم بالاتصال بلوحة الصوت لتشغيله، أو إذا كان يتعلق بالإنترنت يقوم بالاتصال بلوحة الشبكة لتشغيله، وهكذا مع أنواع الملفات الأخرى.
ثالثا:
عند تشغيل الكمبيوتر يتمّ إرسال إشارة إلى أجزائه لبدء التشغيل، وذلك بناء على التعليمات والمعلومات المخزنة في ذاكرته «الهارد ديسك».
وكما أن جسم الكمبيوتر «الهارد وير» لا قيمة له بدون «السوفت وير»، فكذلك «جسم الإنسان» لا قيمة له بدون كل ما هو «معنوي» لا يعمل جسم الإنسان بدونه «سوفت وير القلب».
إن «سوفت وير القلب» هو الذي يجعل صاحبه إما شقيًا أو سعيدًا، ولا ثالث لهما، يقول الله تعالى «١٠٤-١٠٩ / هود»:
* «وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ – يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ»
* «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ….»
* «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا ….»
١- فإذا كانت «الآبائية» هي التي «تبرمج» الإنسان وهو في بطن أمه ليولد على مذهب آبائه الديني، فإن بلوغه النكاح واكتمال رشده هو أول الطريق لمراجعة تدينه الوراثي والتغيير.
ولا عذر لأحد «مطلقا» لم يُغيّر ما هو كائن في حياته إلى ما يجب أن يكون كما أمر الله تعالى لأنه سبحانه القائل في سياق ذم «الآبائية»:
* «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا»
ثم تدبر جيدًا عدم قبول الله تعالى للأعذار التالية:
* «أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
* «أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ»
كما تدبر أن هؤلاء يعتذرون وهم يساقون إلى جهنم:
* «أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»؟!
٢- إن الذي بلغ النكاح واكتمل رشده تنطبق عليه الصورة الإيمانية السابق بيانها:
(أ) فإما أن يؤمن بصدق الله، وصدق رسوله محمد، وصدق «آيته القرآنية»، وأن يقوم بتفعيل نصوصها في حياته.
(ب) وإما أن يأتي بسورة من مثل سور القرآن.
(ج) وإما ينتظر مصيره في جهنم.
– ولما كان عدم تفعيل المسلمين لنصوص الآية القرآنية في حياتهم يعني أنهم لم يؤمنوا بالله ولا برسوله ولا بالقرآن.
– ولما كان إتيانهم بسورة مثل سور القرآن أمرًا مستحيلا على الإنس والجن، لقوله تعالى:
* «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ – وَلَن تَفْعَلُواْ»
– إذن فلينتظروا مصيرهم في جهنم إذا لم يُغيروا «سوفت وير» قلوبهم:
* «فَاتَّقُواْ النَّارَ – الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ – أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»
والآن، ومقارنة بما يُنشر كل دقيقة على الفيس بوك من منشورات دينية تحوز إعجاب المئات، يحق للأصدقاء أن يقولوا:
«زهقتنا في عيشتنا»
محمد السعيد مشتهري