عندما تستخدم كلمة «مسلم» في سياق الذم يكون المراد بها «المنافق» الذي لم يدخل الإيمان قلبه، والذي يشهد حاله على نفاقه ويشهد كلامه على إلحاده.
يقول الله تعالى في سياق تعريف الناس بالمنافقين «١٤ / الحجرات»:
* «قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا – قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا – وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا – وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ …»
لقد أصبحنا نرى اليوم منشورا كل ساعة يستهزئ صاحبه بالله، وآخر بالرسول، وثالث بالقرآن، وليس عجيبًا ولا غريبًا أن نرى عشرات المعجبين بمثل هذه المنشورات، فالطيور على أشكالها تقع، وإنما الغريب والعجيب أن نرى هؤلاء خارج مستشفى الأمراض العقلية.
لقد نزل القرآن يحدث الناس عن دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس، ليس فقط ليؤمنوا بـ «الوحدانية» وأن «لا إله إلا الله»، لأن هذه بديهة عقلية كانوا يُقرّون بها أصلًا، وإنما ليؤمنوا بأن «محمدًا رسول الله» ويتبعوا كتابه.
فتعالوا نقف على بيان حقيقة «الوحدانية» وصدق «النبوة» بتدبر الآيات «١٥-٢٨» من سورة التكوير.
أولًا:
قوله تعالى:
* «فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ – الْجَوَارِ الْكُنَّسِ – وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ – وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ»
١- إن الله تعالى يُقسم بما شاء من مخلوقاته فكلها دالة على فعالية أسمائه الحسنى في هذا الوجود، وقد يخص بالقسم أشياءً لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها.
أما المخلوق فلا يقسم إلا بالله تعالى وحده.
٢- القسم:
إن الله تعالى يُقسم بآية النجوم والكواكب، آية الظهور والاختفاء والجريان، آية الليل إذا أقبل وأدبر، وآية الصبح الذي ظهر وأشرق، والليل والنهار أثران من آثار آية نجم الشمس في شروقها وغروبها.
المقسم عليه:
هو «القرآن» الذي حمل «الآية العقلية» الدالة على صدق رسول الله محمد، والتي تتفاعل نصوصها مع مقابلها الكوني في الآفاق والأنفس، وأن هذا القرآن قول رسول كريم.
٣- «الْخُنَّس» جمع خَانِس وأصلهما الستر، ولذلك سُمّي الشيطان خَنّاس «مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ» لأنه مستتر عن أعين الناس.
٤- «الجواري» جمع جارية، وهي الكواكب والنجوم التي تجري «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا».
٥- «الْكُنَّسِ» جمع «كَانِس» اسم فاعل من «كَنَسَ»، وكَانِس البيت من يقوم بتنظيفه بـ «المكنسة».
والسؤال:
ما هي الكواكب أو النجوم التي من مهمتها «كَنْس» و«ابتلاع» ما حولها؟!
ثانيًا:
قوله تعالى:
* «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ – ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ – مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ – وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ – وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ»
١- الرسول الكريم هو «جبريل»، عليه السلام، بقرينة قوله تعالى بعدها:
* «ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ – مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»
ثم قال الله تعالى بعدها:
* «وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ»
والصاحب هو رسول الله محمد الذي صاحب قومه منذ ولادته.
٢- وإذا كان السياق قد نسب القول إلى «جبريل» إلا أنه في حقيقة الأمر هو «كلام الله» الذي أوحاه إلى رسوله «جبريل» الذي قام بإنزاله على قلب رسول الله محمد.
ومعلوم أن «الرسول»، سواء كان جبريل أو محمد، لا يأتي بقول من عنده.
٣- ولتأكيد تلقي رسول الله محمد وحي القرآن عن طريق رسول الله جبريل، قال الله تعالى بعدها:
* «وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ – وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ – وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ»
* «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ – إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ – لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ»
أن يستقيم على هدى الله بعد أن زالت من أمام القلب السليم كل الشبهات والأعذار والريبة في كون هذا القرآن من عند غير الله، ولم يبق للقلب المريض إلا الجحود المتعمد وهو يرى الحق ثم ينكره!!
٤- وهذا ما يوافق ويتناغم مع آيات سورة «النجم» وقوله تعالى «١-١٢»:
* «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى – مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى – وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى – إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى»
هذا عن رسول الله محمد، ثم جاء بيان دور رسول الله جبريل:
* «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى – ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى – وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى – ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى – فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»
* «فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى – مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى – أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى»؟!
ثالثًا:
لقد أردت بهذا البيان السابق الموجز، عن العلاقة بين آيات الله في الآفاق والآية القرآنية الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، وهو «المقسم عليه» أن يكون مقدمة لبيان فعالية موضوع القسم وهو «الْجَوَارِ الْكُنَّسِ»، بين فهم السلف وعلم الخلف.
١- لقد فهم الناس في عصر التنزيل كلمة «الْجَوَارِ» على أنها النجوم والكواكب التي تخنس «تختفي» بالنهار وتظهر بالليل، وأن كلمة «الْكُنَّسِ» تعني المكان الذي تختبئ فيه نهارًا ثم تخرج منه ليلًا.
لقد تعاملوا مع هذه الكلمات من باب «المجاز»، وأنها جاءت على سبيل التشبيه والكناية، فلم يكن في عصرهم إمكانات علمية تجعلهم يفهمون هذه الكلمات بأكثر من ذلك.
٢- ثم تمر القرون، ونسمع خلالها العلماء يتحدثون عن «الثقوب السوداء» الموجودة في السماء، وأن هناك دراسات علمية تثبت «نظريا» أن هذه الثقوب تخلق قوة جاذبية تعمل مثل «مكنسة كونية» لا تُرى، وأنها عندما تتحرك تبتلع كل ما تصادفه في طريقها حتى الضوء.
٣- واليوم، وفي ١٠/ ٤/ ٢٠١٩، أذيع خبر التقاط أول صوره حقيقية لثقب أسود يبلغ حجمه ثلاثة ملايين مرة حجم الكرة الأرضية، إلى آخر المعلومات التي يحملها الفيديو المرفق.
٤- ولم يحدث خلال هذه القرون أن تكلم عالم من علماء الطبيعة أو الفلك عن كوكب أو نجم يعمل عمل «الثقب الأسود» في كنس ما حوله وابتلاعه.
رابعًا:
وإذا كان أهل اللسان العربي قد عرفوا معنى كلمة «الْكُنَّس» وأنها جمع «كَانِس»، وأن «كَانِس البيت» هو من يقوم بتنظيفه بـ «المكنسة»، فلم يكن لديهم العلم والتقنيات الحديثة التي توصلهم إلى معرفة أن في السماء «الْجَوَارِ الْكُنَّسِ»، التي على هيئة «ثقوب سوداء»، تقوم بعمل «المكنسة» في تنظيف ما حولها.
١- لن أقول كما يقول أصحاب «الإعجاز العلمي» بأن القرآن سبق العلم الحديث فيما يحمله من «آيات الآفاق»، وإنما أقول إن القرآن قال «٥٣ / فصلت»:
* «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ – حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ – أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»
ونلاحظ العلاقة الوثيقة بين:
– «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ»
وبين:
ـ «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»
فهل تبيّن للملحدين، المسلمين قبل غيرهم، أن «القرآن» حق؟!
محمد السعيد مشتهري