ما فائدة أن يدخل الأعجمي في «دين الله الإسلام» من باب «الوحدانية»، المفتوح لجميع الملل والنحل، وهو لا يعلم شيئًا عن برهان صدق «نبوة» رسوله محمد، القائم على لغة القرآن العربية؟!
ولقد وقع المسلمون في هذه الأزمة الفكرية العقدية بسبب عدم التفرقة بين:
* الرسالة الإلهية:
وهي كتاب الله الخاتم الذي حمل «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، فقط لا غير.
* والتراث الديني:
وهو كل ما نُسب إلى البشر عبر التاريخ، بداية برسول الله محمد، وهو منظومة «الفكر الإسلامي» التي يعيش بداخلها المسلمون منذ قرون، بعد أن هجروا «الآية القرآنية العقلية» التي لن يقبل الله من أحد إيمانًا ولا إسلامًا إلا بعد الإقرار بصدق نسبتها إليه عز وجل.
فنصوص «الرسالة الإلهية» معاصرة.
أما «التراث الديني» تاريخ.
وعندما تحمل «الرسالة الإلهية» المعاصرة للناس جميعًا اليوم «الآية القرآنية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، يصبح من المستحيل الإقرار بصدق هذه «الآية الإلهية» دون تعلم اللغة التي نزلت بها، سواء كان ذلك بالنسبة لـ «العرب» أو كان بالنسبة لـ «الأعاجم».
أولًا:
قد تحرص على تحفيظ أولادك القرآن دون أن يتعلموا اللغة العربية، فيحفظون القرآن ويَحصلون على شهادات تقدير وجوائز مالية وعينية، ويضعونها على شبكات التواصل الاجتماعي.
فإذا واجه حافظ القرآن أي شبهة من شبهات الملحدين تتعلق بإعراب كلمة قرآنية، وقلت له كيف ترد على هذه الشبهة، نظر إليك نظر المغشي عليه من الجهل.
إذن فما فائدة حفظ القرآن دون أن يفهم الحافظ نصوص «الآية العقلية» التي يحملها هذا القرآن، وليس فقط الجمل القرآنية؟!
أقول:
معلوم أن خبر «إِنَّ» يتبع اسمها في التذكير والتأنيث، ولكن الله تعالى يقول «٥٦ / الأعراف»:
* «وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا – وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً – إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ»
وقد تكون قد قرأت هذه الآية مئات المرات ولم تسأل نفسك:
إن اسم «إِنَّ» مؤنث وهو «رَحْمَتَ»، فكيف يأتي خبرها مذكرًا «قَرِيبٌ» وليس «قريبةٌ»، فرحمة الله قريبة من المحسنين، فما السبب في حذف علامة التأنيث؟!
والجواب:
حسب «علم السياق» فالله تعالى منزه عن أن توصف فعاليات أسمائه الحسنى بأي صفة مؤنثة أو غير مؤنثة على سبيل الحقيقة، ذلك أن كل ما يتعلق بذات الله وأسمائه الحسنى جاء في القرآن على سبيل «المجاز».
وما كان على سبيل المجاز يجوز فيه التذكير والتأنيث، والإفراد والجمع.
ومثال الإفراد قول الله تعالى:
* «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي (فَإِنِّي) قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ»
ومثال الجمع قول الله تعالى:
* «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»
والله تعالى منزه عن يُنسب إليه الإفراد والجمع، أو الأنوثة والذكورة.
أما ما كان متعلقا بالمخلوق فإن القرب والبعد يُقصد به «المسافة» و«المكان» كقوله تعالى في وصف الحجارة التي عذّب بها قوم لوط عليه السلام:
* «مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ»
فانظر إلى كلمة «هِيَ» وكلمة «ِبَعِيدٍ» ستجد أن المفروض أن تكون «بَعِيدٍة» لوجود «هي» نسبة إلى الحجارة، ولكن بلاغة النص وجهت الأذهان إلى قُرب مكان العذاب منهم.
ويقول الله تعالى «٦٣ / الأحزاب»:
* «يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا»
فانظر إلى كلمة «السَّاعَةَ» وإلى كلمة «قَرِيبًا» ستجد أن المفروض أن تكون «قَرِيبةً» لأن الساعة مؤنثة، ولكن بلاغة النص وجهت الأذهان إلى قُرب الزمن، أي «قَرِيبًا زَمَنُهَا».
فإذا ذهبنا إلى «علم الصرف» لبيان مسألة القُرب والبُعد، وجدنا أن قَرِيب وبَعِيد من صيغة «فَعِيل» التي يستوي فيها المذكر والمؤنث لقوله تعالى في سياق الحديث عما أسره النبي لبعض أزواجه:
«فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ»
فانظر إلى كلمة «الْمَلاَئِكَةُ» وكلمة «ظَهِيرٌ» ستجد أن المفروض أن تكون «ظَهِيرٌة» لأن الملائكة لفظ مؤنث، ولكونها جاءت على وزن «فَعِيل» جاز تذكيرها.
ثانيًا:
يقول الله تعالى «١٦٠ / الأعراف»:
«وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَمًا»
هنا كان يجب أن يُذكر العدد، ويأتي بمفرد المعدود، فيقول «اثني عشر سبطًا» بتذكيرهما وتجريدهما من علامة التأنيث، لأن السبط واحد، والأسباط مذكر.
ولا يُقال إن «أَسْبَاطًا» تمييز، فقد عرفنا في المنشور السابق أن التمييز يكون مفردًا، وإنما هي «بدل» من «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ»، والتمييز محذوف، أي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فرقة.
ويقول الله تعالى «١٩ / الحج»:
* «هذا نِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»
فانظر إلى كلمة «خَصْمَانِ» وكلمة «اخْتَصَمُوا» ستجد أن المفروض أن تكون «اختصما»، لأن الضمير العائد على المثنى يجب أن يُثنّى.
فإذا تدبرنا السياق وجدنا أن القوم انقسموا إلى فريقين: أهل الحق وأهل الباطل، وتحت كل فريق جماعة، فجاء قوله تعالى «اخْتَصَمُوا» إشارة إلى مجموع الفريقين، كقوله تعالى:
* «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا»
فلم يقل الله تعالى «اقْتَتَلا» إشارة إلى الطائفتين.
محمد السعيد مشتهري