يسأل «الملحد»:
هل قواعد «سيبويه» تعتبر لدى النحاة حجة على كتاب الله، فإن وُجد تَخَالف أوجدوا له مخرجًا مقدرًا ومضمرًا؟!
هل نستطيع أن نُقدّر كلامًا لم يرد في كتاب الله تعالى؟!
هل سيفهم الناس اليوم مثل هذا الكلام المُضمر والمُقدر؟!
والجواب يبدأ بمن هو «سيبويه»؟!
أولًا:
لقد ولد سيبويه في البصرة، وتوفي عام «١٨٠هـ»، وتعلم في مدارس البصرة العربية التي كانت تسمى يومها بـ «حلقات العلم»، ولما كبر ذهب يتعلم «الحديث» على يد المحدث حمّاد بن سلمة «ت ١٦٧هـ».
ولم يمكث «سيبويه» طويلًا في حلقة حماد وتركها وذهب إلى حلقة الخليل بن أحمد الفراهيدي «ت ١٧٥هـ» ليتعلم «اللغة العربية»، ونبغ وبرع وأصبح أمير النحو والصرف.
١- لقد ولد «البخاري» صاحب أصح كتاب للحديث عند أهل السنة عام «١٩٤هـ»، وولد «الكُليني» صاحب أصح كتاب حديث عند الشيعة عام «٢٥٥ هـ».
ونلاحظ وننتبه جيدا إلى هذه التواريخ.
فلماذا لم ينبغ «سيبويه» في علم «الحديث»، كما نبغ في «اللغة العربية»، وهو الذي بدأ مشوراه العلمي بتعلم الحديث على يد المحدث حمّاد بن سلمة «ت ١٦٧هـ»، أي قبل أن يولد البخاري بقرن من الزمن تقريبًا؟!
٢- لقد تعامل «سيبويه» مع «الأحاديث» المنسوبة إلى رسول الله والمتداولة في عصره باعتبارها نصوصًا عربية تاريخية، ولم ينسبها إلى رسول الله، واعتمد فقط على شواهد القرآن والشعر العربي الفصيح.
٣- إن السبب في عدم استناد «سيبويه» للأحاديث، في الوقت الذي احتج بها شيوخه وصرّحوا بنسبتها إلى رسول الله محمد، وكان معاصرًا للمحدثين الأُوَلْ مثل حماد بن سلمة «ت ١٦٧هـ»، ومالك بن أنس «ت ١٧٩هـ» صاحب الموطأ.
السبب هو: عدم اطمئنانه إلى نسبتها إلى رسول الله.
ثانيًا:
وهذه بعض الأمثلة الدالة على أن «سيبويه» كان يتعامل مع المرويات التي كانت متداولة في عصره باعتبارها من كلام العرب وليست من كلام الرسول.
والأمثلة من «الكتاب – كتاب سيبويه»:
١- الجزء الأول، باب «ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار»، ص ٢٢٤، قال:
«وحذفوا كما قالوا: حينئذٍ الآنَ، وإنما يريد: حينئذٍ واسْمَعْ إليَّ الآنَ، فحَذَفَ واسْمَعْ، كما قال: تاللهِ ما رأيتُ كاليوم رَجُلًا، أي: كرجلٍ أَراه اليومَ رَجُلًا»
* فقول «سيبويه»:
«كما قال…» إشارة إلى رواية مسلم عن سلمة بن الأكوع وقوله «والله ما رأيت كاليوم رجلًا أشدَّ حرًّا».
٢- الجزء الأول، باب «ما ينتصب على إضمار الفعل المتروكِ إظهارُه من المصادر»، ص ٣٢٧ قال:
«وأما سبُّوحًا قدُّوسًا ربَّ الملائكة والرُّوح، فليس بمنزلة سُبْحانَ اللهِ؛ لأن السبُّوحَ والقُدّوسَ اسمٌ، ولكنَّه على قوله: أذْكُر سُبُّوحًا قُدُّوسًا … ومن العرب من يَرفع فيقولُ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربَّ الملائكةِ والرّوح، كما قال: أهلُ ذاك وصادقٌ واللهِ، وكلُّ هذا على ما سمعنا العربَ تتكلَّم به رفعًا ونصبًا».
* وفي قوله هذا:
إشارة إلى رواية مسلم عن عائشة أن الرسول كان يقول في ركوعه وسجوده «سبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ».
٣- الجزء الأول، باب «ما يجيء من المصادر مُثنًّى منتصِبًا على إضمار ا
لفعل المتروك إظهارُه»، ص ٣٤٨، قال:
«ومثل ذلك: لبَّيْكَ وسَعدَيْكَ … كأنَّه أراد بقوله لبَّيك وسَعدَيك: إجابةً بعدَ إجابةٍ، كأنَّه قال: كلَّما أجبتُك في أمرٍ فأنا في الأمر الآخَر مجيبٌ، وكأنَّ هذه التثنية أشدُّ توكيدًا».
* وفي قوله هذا:
إشارة إلى رواية البخاري عن معاذ قال: قال رسول الله يا معاذُ، قلت: لبَّيْكَ وسعدَيْكَ، ثمّ قال مثله ثلاثًا: هل تدري ما حقّ الله على العباد؟ قلت: لا، قال:
حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
٤- الجزء الأول باب «ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة ولا مصادرَ لأنه حالٌ يقع فيه الأمرُ فينتصب لأنّه مفعولٌ به» ص ٣٩١، قال:
«وذلك قولك: كلّمتُه فاهُ إلى فِيَّ، وبايعتُه يدًا بيَدٍ، كأنَّه قال: كلّمتُه مشافهةً، وبايعتُه نَقْدًا، أي كلَّمتُه في هذه الحال».
* وفي قوله هذا:
إشارة إلى رواية البخاري عن عبد الله بن مسعود عندما سُئل عن قراءة «والَلّيلِ إذا يغشى» فقال:
أقرَأَنِيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فاهُ إلى فِيَّ فما زال هؤلاء القوم حتى كادوا يَرُدُّونِي.
وإلى رواية البخاري «الذهَبُ بالذهَبِ، والفِضَّة بالفِضَّةِ …، مِثْلا بِمِثْلٍ، سَواءً بسَواءٍ، يَدًا بِيَدٍ»
أقول:
وغير ذلك من الأمثلة التي يتضح منها كيف تعامل «سيبويه» مع المرويات التي نسبها الرواة إلى رسول الله من غير أن يضفي عليها صفة كونها من أحاديث النبيّ.
* مع ملاحظة أن هذه المرويات كانت متداولة من قبل أن يولد البخاري «١٩٤ هـ»، ومن قبل أن يولد مسلم «٢٠٤ هـ»، ومع ذلك لم يستطع «سيبويه» الذي توفي عام «١٨٠ هـ» أن يسندها إلى رسول الله.
ثالثًا:
والسؤال:
إذا كان من حق «السلفية» أن تكره «سيبويه: ت ١٨٠هـ» لأنها تعتبره منكرًا للسنة، وتحب شيخه «الفراهيدي: ت ١٧٥هـ» لأنه كان يستدل بالمرويات ويسندها إلى رسول الله.
وإذا كان أئمة السلف قد افتروا على «سيبويه» الكذب وقالوا إنه أصيب بعقدة نفسية من «الحديث» بعد أن فشل في تعلمه بسبب جهله باللغة العربية، الأمر الذي دفعه إلى الذهاب إلى حلقة «الفراهيدي» لتعلمها.
إذا كان هناك ما يجعل «السلفية» تكره «سيبويه»..، فما الذي يجعل «الملحدين» يكرهونه، وهو الذي سبق أئمة الجرح والتعديل بقرون في عدم اعتبار مرويات الرواة، ظنية الثبوت عن رسول الله، حجة في دين الله؟!
والجواب:
إنه «الغباء» الإلحادي الذي جعل «الملحد» لم يفهم معنى قول أئمة اللغة العربية في قوله تعالى «٥ / الكهف»:
* «مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ – كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ – إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا»
حيث قال:
إن لفظ «كَلِمَةً» تُعْرَب تمييزًا منصوبًا: صح
والفاعل «مُضمر»: صح
والتقدير «كَبُرَتْ» مقالتهم: صح
التي هي قولهم «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا»: صح الصح.
يصبح أين المشكلة؟!
المشكلة في أنه لم يفهم هذا الكلام الذي نقله عن أئمة اللغة العربية، فما معنى قولهم:
إن لفظ «كَلِمَةً» تُعْرَب تمييزًا منصوبًا؟!
فما معنى التمييز؟!
التمييز «اسم» ويجب أن يكون «نكرة»:
أي لا يكون معرفًا بـ «ال» التعريف، فلا نقول «كَبُرَتْ الكَلِمَة» لأن «الكَلِمَة» هنا يجب أن تكون فاعلا مرفوعا «الكَلِمَةُ»، ومثال ذلك قول يوسف عليه السلام:
* «رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا»
فكلمة «كَوْكَبًا» تمييز يُبيّن «المبهم» الذي هو «أَحَدَ عَشَرَ»، أهي «أشجار» أم «رجال» … أم «كواكب»؟!
ويستعمل «التمييز» في بيان الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا في «كَبُرَتْ كَلِمَةً» مستعمل على سبيل التعجيب من كِبَر الكلمة التي خرجت من أفواههم وهي قولهم «اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً».
أي أن فاعل «كَبُرَ» ضمير محذوف، و«كَلِمَةً» مميزة لهذا الضمير المحذوف، والتقدير:
كَبُرَتْ مقالتهم، التي هي قولهم «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا»، أي أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولدًا أمرٌ كبيرٌ عظيمٌ.
ومثله قوله تعالى:
* «كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ»
فكلمة «مقتًا» منصوبة على التمييز، ويُسمى تمييز نسبة، أي كَبُرَ «ممقوتًا»
قَولُكم ما لا تفعلونه.
وللموضوع بقية
محمد السعيد مشتهري