طالما أن القاعدة التي ينطلق منها «الإسلاميّون» في فهم أحكام القرآن هي قاعدة «الإسلام الوراثي»، فإن النتيجة «المنطقية» أن نرى هذه «المنهجية العشوائية» التي تحكم إنتاجهم الديني.
أن الدخول في «دين الإسلام» لا يكون بـ «شهادة الميلاد» التي تجعل المسلم «مسلمًا» وهو في بطن أمه!!
إن الإنسان لا يكون «مسلمًا» إلا إذا بدأ طريق «الإسلام» من أوله بالإقرار بصدق «الآية الإلهية» التي حملها الرسول الذي يريد أن يتبعه.
أولًا:
عندما يقول الله تعالى «البقرة / ١٨٠»:
* «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ»
فإن «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» تعني «فُرِضَ عَلَيكُمْ» بقرينة تذييل الآية بجملة «حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ»، أي «وَجَوبًا على المتقين».
١- لماذا خص الله الوصية بـ «الْمُتَّقِينَ» وليس بـ «المؤمنين»؟!
لأن «التقوى» هي القاعدة التي يقيم عليها «المؤمن» إسلام وجهه لله تعالى، والتزامه الصادق بأحكام القرآن.
يقول الله تعالى «الآية ١-٢/ البقرة»:
«الم – ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ»
فهل قوله تعالى «هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ» يعني أن الكتاب ليس «هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ»؟!
إن الإجابة حملتها الآيات التالية «الآيات ٣-٤»:
* «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»
* «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ»
أي أن «الْمُتَّقِين» هم الذين يُقرّون بـ «أصول الإيمان»، ولذلك قال الله تعالى بعدها:
* «أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»
وعليه نفهم أن هناك كلمة «المُؤْمِنُين» تُفهم ضمنيًا من سياق قوله تعالى «حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ» أي «حقًا على المُؤْمِنُين الْمُتَّقِينَ».
٢- قد تقتضي ظروف بعض الذين شملتهم آية المواريث «النساء/١١»»، أو الذين حَجَبَتْهم أنصبة الورثة فلم يأخذوا شيئًا، إعطاءهم مالًا يساعدهم على مواجهة هذه الظروف التي قد لا يعلمها إلا الله تعالى.
لذلك أمر الله «صاحب المال» بكتابة «وصية» لـ «الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ»، ولم يفرض لها مقدارًا محددًا، وجعله حرًا في التصرف في ماله من باب التكافل العائلي.
٣- إن الذين قالوا إن هذه الآية نُسخت بـ «آية المواريث» هؤلاء لم يدخل الإيمان قلوبهم، فـ «كلام الله» الذي بلغه رسول الله محمد للناس، يستحيل أن تُنْسَخ منه كلمة واحدة، وهناك عشرات الكتب في بيان أنه لا نسخ في القرآن.
ثانيًا:
لقد خرج «د.هلالي» من أزمة تحريف معنى كلمة «لكم» في قوله تعالى «وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ» إلى أزمة «الوصية» كما بينت ذلك في المنشور السابق.
ثم يأتي الفيديو المرفق بالبراهين الدالة على «المنهجية العشوائية» التي يتبعها «د.هلالي» في فهم أحكام القرآن!!
فهل يُعقل أن يُعطي فقهاء أهل السنة ظهورهم لآية الوصية «البقرة/ ١٨٠» ويقيمون ما يُسمى بـ «الوصية الواجبة» على رواية أقروا جميعًا بضعفها؟!
تعالوا نقف على إشكاليات ما ذكره «د.هلالي» في هذا الفيديو.
١- لقد استند في بداية حديثه إلى قوله تعالى «البقرة / ١٨٠»:
* «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ»
ثم قال:
أ- إن جمهور الفقهاء قالوا «طبعا يقصد فقهاء أهل السنة»: «إن الوصية سُنّة»
ب- إن الوصية لوارث لا تجوز.
ج- وقال الشيعة الإمامية الوصية لوارث تجوز.
د- وأخذ القانون المصري بقول الشيعة الإمامية.
هـ وقد حبب «الإسلام» إلينا أن نكتب «وصية» لغير الوارثين، في حدود الثلث، وما زاد يكون بإذن الورثة.
والسؤال:
ما علاقة هذا كله بالآية التي ذكرها في بداية حديثه؟!
٢- هل «الإسلام» الذي أمر أن تكون الوصية في حدود الثلث، وأن ما زاد يكون بإذن الورثة، أم أن الذين أمروا بذلك هم فقهاء أهل السنة واختلفوا هل هي «واجبة» أم «سُنّة»؟!
قال «د.هلالي»:
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الزيادة لا تجوز ولو أذن بعض الورثة، عملًا بحديث رواه أصحاب السنن، أن النبي قال:
«إنَّ اللهَ تصدَّقَ عليكم عندَ وفاتِكم بثُلثِ أموالِكم زِيادة لكم في حسناتكم»
ثم قال: هذا الحديث «وإن كان ضعيفًا» لكن الفقهاء قالوا:
مع التسليم بصحته والعمل به، فإن جماله في أن «الإسلام» يراعي «بُخل البخلاء».
والسؤال:
هل «الإسلام» هو الذي راعى «بُخل البخلاء» أم فقهاء مذاهب أهل السنة؟!
ثالثًا:
وإن أخطر ما أفتى به «د.هلالي» خلال حديثه هو جواز أن تأخذ المرأة من مال زوجها بغير علمه «تسرق» إذا كان «بخيلًا»!!
ولذلك ستكون لي وقفة حول هذه الفتوى لأني أحاربها منذ «الثمانينيات».
صحيح أن توجهي الديني لا علاقة له بـ «التراث الديني» للفرق الإسلامية، إلا أني عندما أجد إلحادًا في أحكام القرآن يستند إلى مرويات التراث الديني، أجد نفسي مضطرًا إلى بيان تهافت هذا الإلحاد.
لقد كان آخر حديث لي حول «تحريم هذه السرقة» ما نشرته صحيفة «الأهرام» صفحة «الفكر الديني» بتاريخ «١٤/ ٩/ ٢٠٠٥م»، وقلت فيه:
١- إن هذه الرواية التي يستندون إليها في فتواهم رواها «البخاري» وفيها إن «هند بنت عتبة» قالت يا رسول الله:
«إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
٢- لقد أخذ فقهاء أهل السنة من القصة ما يوافق هواهم المذهبي، وتركوا ما يُسقط هواهم المذهبي وهو ما يلي:
لقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الحاكم في المستدرك، رواية أخرى تبين أن رسول الله لم يُفت هندا إلا بعد أن استشار زوجها في أمرها.
٣- تقول الرواية الأخرى:
لما علمت هند أن من شروط بيعة الرسول «ولا يسرقن» ذهبت إليه وقالت له: أنا لا أستطيع أن أبايعك لأني أسرق من زوجي.
وعليه لم يبايعها الرسول حتى أرسل إلى زوجها أبي سفيان يستأذنه أن تأخذ من ماله ما يكفيها.
فقال أبو سفيان: تأخذ «البلح الرطب»، أما «البلح اليابس» فلا.
الخلاصة:
أ- لقد رفض الرسول بيعة هند حتى تقلع عن سرقة مال زوجها.
ب- أرسل إلى زوجها يستشيره في ذلك.
ج- الذي أذن به زوجها أن تأخذه بغير إذنه هو ما كان رطبًا، ذلك أن «البلح الرطب» يمكن أن يفسد بسرعة، غير «البلح اليابس».
رابعًا:
إذا عدنا إلى روايتهم التي أفتوا على أساسها بإباحة أخذ المرأة ما يكفيها من مال زوجها بغير علمه، فإن السؤال الذي سيفرض نفسه:
من الذي سيحدد للمرأة «حد كفايتها» و«حد المعروف» وهي مسألة نسبية تحكمها مؤثرات كثيرة في مقدمتها هوى النفس؟!
ثم كيف تعيش أسرة مسلمة معنى السكن والمودة والرحمة وفيها زوج تنتظر نوم زوجها حتى «تسرق» من جيبه ما يكفيها؟!
أما إذا عدنا إلى القرآن العظيم، نجد أن في حالة نشوز الزوج «الرجل» وإضراره بكيان أسرته الأخلاقي أو الاجتماعي.
فإن على المرأة أن ترفع أمرها إلى أهله وإلى أهلها ليحكما بينهما، أو إلى القضاء ليفصل في أمرهما، لقوله تعالى:
* «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ … الآية».
١- هذه مجرد عينة لبيان كيف تتعامل «المنهجية العشوائية» مع أحكام القرآن، ولماذا سقط الذين فرحوا بفتوى «د.هلالي» في مقبرة الجهل.
٢- ماذا سيكون موقف «الجهلاء» عندما يستمعون إلى «د.هلالي» وهو يُوظّف موضوع الوصية سياسيًا، ويقول:
إن «ولي الأمر» هو «القانون» الذي من حقه أن يفرض على أصحاب الأموال كتابة «الوصية» لـ «الأقربين»، بحد أقصى «الثلث»!!
٣- لقد بدأت دوامة «د.هلالي» بكلمة «لكم» في آية المواريث، ثم برواية «الثلث» الموضوعة، ثم بالتوظيف السياسي للرواية.
والآن يكشف عن الطامة الكبرى ويسأل:
لماذا سُمّيت هذه الوصية بـ «الوصية الواجبة»؟!
ويجيب: سُمّيت بذلك لأن «القانون» هو الذي «أوجبها» وليس «الشرع»!!
* لقد تفرقوا في «دين الإسلام» إلى فرق ومذاهب عقدية وفقهية مخالفين بذلك أمر الله لهم بعدم التفرق في الدين، وألحدوا في آيات القرآن وأحكامها.
* وعندما يتحدثون عن مذاهبهم العقدية والفقهية يتحدثون باسم «الإسلام» وباسم «الأمة الإسلامية»، و«كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!
فماذا أقول؟!
محمد السعيد مشتهري