يُصور الله تعالى آكل الربا بإنسان غير متزن، كلما قام من مجلسه أُصيب بدوار يُوقِعه على الأرض، كأن شخصًا قد ضربه على رأسه:
* «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ»
وكل شخص تصدر منه تصرفات غير سوية، وقرارات غير حكيمة، يُقال عنه «إنسان متخبط».
وكان العرب يعتبرون أن الإنسان «المصروع» قد مَسّته يد الشيطان، ولما كان الشيطان من «الجن الكافر» فلا شك أنه لن يأتي من وراء مسه إلا الضُّر.
ولكن الله تعالى يقول:
* «وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
ثم يقول تعالى بعدها:
* «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ»
إن مشكلة المسلمين تدور دائما حول الإجابة على هذا السؤال:
أين «الَّذِينَ اتَّقَوْا»؟!
أولًا:
إن الحقيقة التي بيّنها القرآن، وذكرتها في المنشورات السابقة، أن الشيطان بريء من كل عمل ينسبه البشر إليه غير «الوسوسة»، وها هو الشيطان يشهد بنفسه على ذلك، فتدبر:
* «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ»
* «وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي»
* «فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ»
* «إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
إن الإنسان هو الذي يَقبل دعوة الشيطان، ويفتح له باب «الوسوسة» ليدخل إلى قلبه، ويُسأل علماء النفس عن ماذا تفعل «الوسوسة» إذا دخلت قلب الإنسان وعاشت بداخله!!
ثانيًا:
يقول الله تعالى عن أيوب عليه السلام:
* «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ»
يستحيل أن نفهم قول أيوب «مَسَّنِي الشَّيْطَانُ» بمعنى أن الشيطان لبسه وصرعه وعذّبه، لاستحالة ذلك، ليس على الأنبياء فقط، وإنما على الناس جميعا، فليس للشيطان سلطان عليهم إلا «الوسوسة».
لذلك يجب أن نفهم هذه الآية في إطار فهمنا لقوله تعالى:
* «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»
ومن سياق الآيتين نفهم أن الضر «مَسَّنِي الضُّرُّ» هو الذي مس أيوب، وأن المقصود بـ «مَسَّنِي الشَّيْطَانُ» الوسوسة التي كان يلقيها الشيطان في قلبه وتتعلق بما ابتلاه الله به في أهله ومرضه.
لقد أتعبته «الوسوسة الشيطانية» إلى درجة التعب «بِنُصْبٍ» والعذاب النفسي «وَعَذَابٍ»، وهذا ما نفهمه من سياق قوله تعالى بعدها:
* «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ»
* «وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ»
* «رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ»
ثالثًا:
١- إن «الشيخ المعالج بالقرآن» عندما يدّعي أن «جنًا يهوديًا» يعيش داخل هذا الشخص الذي أمامه، وأنه سيخرجه بتلاوة القرآن مع ضربه ضربًا مبرحًا حتى يخرج، فيموت المريض.
فإن الشيطان بريء من موت المريض.
٢- و«الشيخ المعالج بالقرآن» عندما يقول للمرأة إن «الجن» الذي لبسها يعيش داخل فرجها، وأنها يجب أن توافق أن يجامعها ليخرج الجن، بشرط ألا يعلم ذلك أحد.
فتوافق المرأة، ويبدو أن مشكلتها كانت نفسية تتعلق بهجر زوجها لها، فعندما وجدت ضالتها عند الشيخ خرج الجن من جسدها ولم يعد، ثم اكتشف زوجها الخيانة.
مثالان من عشرات الأمثلة التي تعرضها برامج «التوك شو» التلفزيونية، وقضاياها منظورة أمام القضاء.
رابعًا:
إن العوالم الخفية، من ملائكة وجن وشياطين، أشياءٌ تتحرك في الهواء ولا تُرى لأنها من عالم الغيب، إنها ليست أشياءً مادية تدخل الأجسام وتخرج!!
وطالما أن الشياطين تعيش في الهواء، مثلها مثل «طاقية الإخفاء»، وأن هناك من البشر من يملكون قدرة تسخير هذه الشياطين، نكون بذلك قد طعنا في صدق «النبوات»!!
١- إن صدق «النبوة» يقوم على «الآيات الحسية» الخارقة للعادة التي يؤيد الله بها رسله، والتي يجب أن يعجز الإنس والجن أن يأتوا بمثلها.
فهل يُعقل أن يُعطي الله الشياطين «آيات حسية» خارقة للعادة يُظهرونها على أيدي من يُسخرونهم لـ «أعمال السحر»، فيذهل الناس إلى درجة أن الساحر لو قال لهم:
إنه ليس ساحرًا، وإنما رسول من رب العالمين، وأن هذه الأشياء التي قدّمها لهم هي «الآيات الحسية» التي أيده الله بها..، صدّقوه؟!
٢- إذن ما الفرق بيّن الأشياء الخارقة للعادة التي أيد الله بها «الأنبياء»، والتي أيد بها «الشياطين»؟!
لقد بيّن الله هذا الفرق في كتابه الحكيم، وقد ذكرت ذلك في المنشورات السابقة، ولولا أن الناس يعلمون أن هؤلاء «سحرة» يخدعون أعينهم، لكنا نعيش اليوم بين آلاف «الأنبياء»!!
خامسًا:
ألم يقل الشيطان لربه:
* «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»
ألم يقل الله للناس:
* «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً»
وقال لهم:
«وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»
١- إذن لو كان الشيطان «الجن الكافر» يملك هذه الأشياء «الخارقة للعادة»، ويستطيع دخول جسد الإنسان، فلماذا لم تجتمع الشياطين على قلب رجل واحد، وتدخل أجساد المسلمين فتصيبهم جميعًا بـ «الصرع»، وتقضي عليهم بـ «الضربة القاضية»؟!
٢- لقد سخر الله لسليمان، عليه السلام، «الجن» مسلمهم وكافرهم «الشياطين»، وكانت هذه هي «الآيات الحسية» الدالة على صدق «نبوته»، ولم يكن من هذا التسخير دخول الشياطين أجسام الناس.
٣- لقد كانت مهمة «الشياطين» محددة بأعمال يعلم الله أنهم مسخرون لأدائها، فقال تعالى:
* «وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ»
فلماذا قال الله تعالى عند الحديث عن الشياطين «وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ»؟!
لبيان أن كفر الشياطين قد يدفعهم أثناء أداء عملهم مع الجن المسلم إلى الانتقام من أعدائهم «بني آدم»:
* «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ..»
فجاءت جملة «وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ» لنفي أن يحدث أي ضرر منهم لبني آدم، ولذلك قال تعالى قبلها:
* «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ»
سادسًا:
عندما نتدبر قصة سليمان وأن «الجن» يفعلون له ما يشاء، يجب أن نتوقف عند الحكمة من مجيء قصة موته بعد الآيات السابقة مباشرة، فقال تعالى:
* «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ»
* «فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ»
١- فلماذا جعل الله تعالى بيان موت سليمان على يد دابة الأرض، والجن الذين يعيشون في الهواء الذي يتنفسه الناس لا يعلمون عن موته شيئًا؟!
طبعا الجواب حملته نفس الآية «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ».
٢- وهذا دليل قطعي الدلالة على أن «الجن» مسلمهم وكافرهم، يستحيل أن يطلعهم الله على شيء من الغيب، ومن باب التأدب مع الله تعالى يجب أن نقول في هذا السياق:
«إلا أن يشاء الله تعالى ذلك».
٣- فما هو «الْعَذَابِ الْمُهِينِ» الذي لبث الجن فيه؟!
بيان ذلك في كلمة «مهين»، أي العذاب الذي جعلهم «أذلة».
فقد كانوا يتفاخرون أنهم يعلمون الغيب، حسب ما أمدهم الله به إمكانات لخدمة سليمان، فجاء موته درسًا قاسيًا مهينًا لهم.
وللموضوع بقية
محمد السعيد مشتهري