نحو إسلام الرسول

(1177) 2/9/2018 «الشيطان بين لغة القرآن وعلم السياق»

عندما يجعل الله آية رسوله محمد آية «عقلية» لا تفتح أبوابها إلا:

* «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ – لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ – لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ – لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ – لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ – لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ – لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ»

فذلك لأن هذه «الآية» تحمل كلمات الله وآياته، الأمر الذي يقتضي التوقف كثيرًا عند قوله تعالى في سورة القمر:

* «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»

هذه الجملة التي تكررت في السورة أربع مرات لبيان أن القضية ليست في الشق الأول من الآية:

«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ»

وإنما في الشق الثاني:

«فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»

إن «المُدّكر» شخص يقف على الحجج والبراهين ثم يُفكّر فيها ويَعْقِلها.

وعندما يتعلق «الادّكار» بالقرآن «الميسّر للذكر» فهذا معناه أن هذا «التيسير» يقوم على أدلة وبراهين مستقاة من لغة «الذكر» العربية، وإلا لكان من السهل أن يفهم «الأعجمي» آيات القرآن بمجرد النظر إليها!!

ومن ثمار وقوف متدبر القرآن على الأدلة والبراهين المستقاة من لغة «الذكر» العربية:

١- أن يفهم لماذا عجز الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولن يأتوا:

«اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»؟!

٢- وما هو البرهان على أن هذا القرآن أحكمت آياته:

«الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»

٣- وهل حقا لا يوجد في القرآن ما يُسمى بـ «الترادف»، أم أن هناك مئات الآيات تحمل هذا «الترادف» ونحن لا نعلم؟!

فمثلا:

# هل «الله» و«الْمَلِكُ» و«الْقُدُّوسُ» و«السَّلامُ»…إلى آخر أسماء الله الحسنى كلمات «مترادفة» تحمل صفات لذات واحدة هي «الله» عز وجل، أم هي كلمات غير مترادفة تحمل ذوات مختلفة، بدعوى أنه «لا ترادف في القرآن» فنشرك بالله؟!

# وهل «الكتاب» و«القرآن» و«الفرقان» و«الذكر» و«النور» و«الحكمة» كلها كلمات لذوات مختلفة أي غير مترادفة، أم أنها مترادفات تحمل صفات لذات واحدة هي «التنزيل الحكيم»؟!

# وهل «إبليس» و«الشيطان» كلمتان مترادفتان لذات واحدة تختلف في الصفات، أم لكل منهما ذات مستقلة عن الآخر؟!

أولًا:

إذا عندنا إلى قائمة الآيات التي حملت كلمة «إبليس» في المنشور السابق، وتدبرنا هذه الآيات، نلاحظ الآتي:

١- أن «إبليس» لم يخرج عن قصة السجود لآدم وتوابعها، بداية من رفضه السجود لآدم، الأمر الذي يعتبر تحديًا ومعصية لله، فَسُمّي بهذا الاسم «إبليس» كـ «عَلَم» على معصية الله تعالى.

٢- وكان «إبليس» هو الوحيد، من العوالم الخفية «الجن»، الذي أبى السجود لآدم، فلعنه الله إثر ذلك:

* «‬وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً»

٣- إن «الإبلاس» هو الحزن وشدة اليأس والانكسار، يُقال أبْلَسَ فلان إذا سكت غمًا من شدة اليأس، وأبْلَسَ من رحمة الله أي يئس.

فلما استكبر هذا «الجني» عن السجود، أبلس من رحمة الله إلى الأبد، ناسب أن يُسَمّى ويخاطب بهذا الاسم «إبليس».

٤- إن «شَطُنَ» لفظ يستخدم في سياق الحديث عن الأشياء الخبيثة والقبيحة والضارة، ومن هنا اشتقت كلمة «شيطان»، والعرب يُسَمّون الشيء الخبيث «شَاطِن».

وكلمة «شيطان» مشتقة أيضا من كلمة «شَاطَ / يشيط» إذا فسد واحترق، ونحن عندما نسهو عن الطعام حتى تحرقه النار نقول الطعام «شاط».

والعرب يُسمّون الحَيَّة «شيطانًا»، ويُسَمّون البئر التي بها عوج والتواء في مجراها بالبئر «الشَطون»، وعندما يحتد الرجل في غضبه نقول «استشاط الرجل».

ثانيًا:

عندما أخذ «إبليس» العهد بالإنظار:

«قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»

خرج من حالة «الأبلسة» إلى حالة «الشيطنة»، حيث الشطون عن كل ما فيه خير وصلاح، وعن كل خلق أو فعل حسن، وكانت أول «شيطنة» له «الوسوسة» لآدم بالأكل من الشجرة.

يقول الله تعالى في سورة طه «الآية ١٢٠»:

* «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى . فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى»

وهنا نتوقف عند لفظ «الغواية» في قوله تعالى:

«وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى»

لبيان أن «الشيطان» الذي وسوس لآدم، هو نفسه «إبليس» الذي توعد بإغواء آدم وبنيه:

* «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»

وكان هذا «الإغواء» عن طريق وسوسة الشيطان «الإبليس»:

«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ»

ثالثًا:

فمن الذي أخرج آدم وزوجه من الجنة: إبليس أم الشيطان؟!

تعالوا نتدبر قوله تعالى في سورة طه:

* «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»

* «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى»

ثم نتدبر ماذا سيقول الله لآدم عن هذا «الإبليس»:

* «فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى»

إذن فالعدو الأول لآدم هو «إبليس»، وهو الذي سيخرج آدم وزوجه من الجنة.

ثم نفهم ما سبق في إطار قوله تعالى في سورة الأعراف «الآية ٢٧»:

«يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ»

إذن فـ «إبليس» هو نفسه «الشيطان» الذي فتن آدم وزوجه وأخرجهما من الجنة.

نفهم من ذلك أن الصفة «الإبليسية» قد انتهت بانتهاء موقف طرد «إبليس» من رحمة الله لرفضه السجود لآدم، وأن الصفة «الشيطانية» هي التي سيتحرك بها بين بني آدم إلى يوم الدين.

ومن هنا نعلم الحكمة من ذِكر «إبليس» في إحدى عشرة آية، بينما ورد ذكر «الشيطان» في ثمانٍ وثمانين آية.

رابعًا:

فإذا عندنا إلى قائمة الآيات التي حملت كلمة «إبليس» في المنشور السابق، نجد أنها بدأت بقوله تعالى «البقرة / ٣٤»:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ»

ومنذ هذه اللحظة أصبح «إبليس» عدو آدم الأول، فتعالوا نتدبر ماذا قال الله تعالى بعدها «الآية ٣٥»:

* «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ»

وهنا يكون آدم وزوجه قد دخلا دائرة الالتزام بطاعة الله فيما يأمر به، ويكون «إبليس» قد دخل دائرة الالتزام بما توعد به آدم وذريته:

* «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»

فماذا كانت أول مظاهر هذا الإغواء؟!

يقول الله تعالى بعدها «الآية ٣٦»:

* «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»

إذن فذكر «الشيطان» في هذا السياق، بعد الحديث عن عداوة «إبليس» لآدم، يُبيّن أن الذات واحدة والاختلاف في الدور الذي تقوم به هذه الذات، هل هو «الأبْلَسَة» أم «الشيطنة»؟!

وللموضوع بقية

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى