لقد شاء الله أن يخلق آدم وذريته مختارين، وأرسل إليهم «النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ»، ليأخذوا قرار إيمانهم أو كفرهم بإرادتهم.
وقبل أن يخرج بنو آدم إلى الدنيا، أشهدهم الله على أنفسهم:
* «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»
فشهدوا بـ «الوحدانية» من قبل أن يولدوا، وعلموا أن الله سيرسل لهم رسلًا يجب عليهم طاعتهم، وأنه سبحانه لن يقبل منهم عذرًا بالغفلة:
* «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
وغالبًا ما تكون هذه الغفلة من الملحدين الذين ينكرون وجود الله وفعاليات أسمائه الحسنى في هذا الوجود.
ولن يقبل الله من بني آدم عذر اتباعهم «الآبائية» التي أشركت بالله:
* «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»
ومع هذا التفصيل الهام في أصول الإيمان، بيّن الله لبني آدم أن باب التوبة يظل مفتوحًا إلى يوم الدين:
* «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»
أولًا:
إن السبب الرئيس في غفلة الناس عن ميثاق الربوبية، واتباع ما وجدوا عليه آباءهم، هو «إبليس» أبو «الشياطين»، الذي يقف حائلًا بين المرء وتذكر قلبه ميثاق الربوبية، فيجد قلبه غافلًا لا يبصر دلائل الوحدانية التي أمامه في آيات الآفاق والأنفس.
والسؤال:
هل عندما نزل القرآن يخاطب قوم النبي محمد بآيات تحمل كلمة «إبليس»، وكلمة «الشيطان»، كان القوم يعلمون معنى الكلمتين والفرق بينهما؟!
الجواب:
يستحيل أن ينزل الله على أي رسول من الرسل كلامًا، إلا وكان قومه يعلمون معناه من قبل نزوله، لأنه سبحانه القائل:
* «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»
إذن فليس لآيات القرآن فضل في بيان معاني كلمات القرآن لأن العرب كانوا يعلمون معانيها من قبل نزولها، وإلا ما خاطبهم الله بهذه الكلمات، وقال لهم في أربع مواضع وفي سورة واحدة:
* «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»
إذن فتيسير القرآن للذكر يكون لـ «المُدّكرين» من «أهل الذكر»، الذين يعلمون «لغة القرآن»، وكيفية التعامل معها، ومع أساليبها البيانية، من قبل نزول القرآن.
فقد عرف العرب معنى «إبليس» ومعنى «الشيطان» من قبل نزول القرآن، أي من مصدر معرفي خارج القرآن، وهو ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي»
ولذلك عندما نزل قوله تعالى في وصف شجرة الزقوم:
* «إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ . طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ»
لم يسأل أحد من قوم النبي عن معنى:
«طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ»
لأنهم يعلمون معنى كلمة «طلع»، وكلمة «رأس»، وكلمة «شيطان»، من قبل نزول القرآن.
ثانيًا:
ومن منطلق أن القرآن لا يحمل معاني كلماته ومُسَمّياتها، وأنه يستحيل فهم كلمات القرآن بدون مُسَمّياتها الموجودة خارجه.
فليس أمام متدبر القرآن إلا الاستعانة بأدوات فهم القرآن، وهي حسب مشروعي الفكري:
١- منظومة التواصل المعرفي
٢- لغة القرآن العربية التي حفظها الله في مراجعها
٣- علم السياق الذي يُظهر كيف أحكم الله آيات كتابه
٤- آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه… آليات عمل القلب
٥- فعاليات آيات الآفاق والأنفس في هذا الكون
فتعالوا نطبق هذه الأدوات، باستثناء الخامسة، كي نفهم معنى الكلمتين «إبليس والشيطان»، ونبدأ بـ «علم السياق» فنلاحظ الآتي:
لقد وردت كلمة إبليس في القرآن في إحدى عشرة آية على النحو التالي:
١- «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ» البقرة / ٣٤
٢- «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ» الأعراف / ١١
٣- «إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» الحجر / ٣١
٤- «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» الحجر / ٣٢
٥- «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» الإسراء / ٥١
٦- «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..» الكهف / ٥٠
٧- «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى» طه / ١١٦
٨- «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» الشعراء / ٩٥
٩- «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» سبأ / ٢٠
١٠- «إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ» ص / ٧٤
١١- «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ» ص / ٧٥
ثالثًا:
ومع أن هناك تسع آيات تحدثت عن رفض «إبليس» السجود لآدم، فإن الآيتين «رقم ٨، و٩» تحدثت أيضا عن نفس الموضوع ولكن من زاوية أخرى، وهي الجزاء الذي أعده الله لـ «إبليس» لرفضه السجود لآدم، وتكبره وقوله لربه «الإسراء / ٦٢»:
* «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً – قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً»
إن مجيء كلمة «لأَحْتَنِكَنَّ» في سياق أول تحدي من إبليس لبني آدم، بيانٌ جامعٌ شاملٌ لما سيقوم به.
فـ «الاحتناك»: أخذ الشيء والتمكن منه كلية، يقال احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا أخذه بالكلية، كما تستخدم الكلمة عند التعبير عن امتلاك الإنسان زمام الشيء والسيطرة عليه.
يُقال وضع الراكب اللجام في حَنَك الفرس ليَسيّره حسب ما يريد.
فأراد «إبليس» بكلمة «لأَحْتَنِكَنَّ» أن يقول لبني آدم أنه سيقودهم إلى تحقيق مراده كما يقود الرجل فَرسه إلى حيث يريد.
ولكنه أقر واعترف وشهد بفشله مع فئة من بني آدم فقال «إِلاَّ قَلِيلاً»، وبيّن في موضع آخر من هي هذه الفئة:
* «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ»
إذن فالآية «رقم ٨»:
«وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» الشعراء / ٩٥
جاءت بيانًا لجملة «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً»، الواردة في الآية السابقة «الإسراء / ٦٢»، والتي يبدأ سياقها بقوله تعالى:
* «فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ . وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ . قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ . تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ»
أما الآية الثانية «رقم ٩»:
«وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» سبأ / ٢٠
فلم تنفصل أيضا عن موضوع الآيات العشر السابقة، فقد وجد «إبليس» ظنه صادقًا على بني آدم في كل ما توعدهم به في كثير من الآيات، ومنها:
* «وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ»
* «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ»
إذن فلم ترد كلمة «إبليس» إلا في سياق معصية الله ورفضه «السجود» لآدم، و«التحدي» الذي أعلنه صراحة لبني آدم، حسب ما بيّنته الآيات السابقة.
# وللموضوع بقية:
فقد ورد ذكر «الشيطان»، على جهة الإفراد والجمع، في ثمانٍ وثمانين آية، خارج قصة «السجود» السابق بيانها في هذا المنشور.
فهل «الشيطان» هو نفسه «إبليس»؟!
وإذا كان هو، فلماذا اختلفت الكلمتان؟!
وهل كان من الممكن فهم الآيات السابقة، وما حملته من كلمات، ككلمة «لأَحْتَنِكَنَّ»، وكلمة «فَكُبْكِبُوا»، وكلمة «فَلَيُبَتِّكُنَّ»…، بل وفهم «مُسَمّى»
كل كلمة من كلمات الآيات السابقة.
هل يمكن فهم ذلك من داخل القرآن والاستغناء عن الأدوات المعرفية التي حملها هذا المنشور؟!
في الحقيقة أنا مشفق جدًا على «الجهال» أصحاب بدعة «القرآن وكفى»، الذين يتصورون أنهم سيجدون في القرآن بيان وتفصيل كيفية أداء فريضة «إقام الصلاة»، فيستخفون بعقول الذين لا يعلمون، ويدخلونهم معهم جهنم.
وقلق جدًا على مستقبل «الفهم الواعي» لكتاب الله، وما حمله من نصوص «الآية العقلية القرآنية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد.
محمد السعيد مشتهري