هل كان إبراهيم، عليه السلام، إمامًا للناس جميعًا، أم إمامًا للذين آمنوا به واتبعوا ملته؟!
تعالوا نبدأ القصة من أولها، ونتدبر بعض آيات سورة البقرة، بداية بـ «الآية ١٢٤»:
١- «وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ – قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً – قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي – قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»
# الإمام: اسم من يُؤْتَم به، ويستحيل أن يكون هناك إمام من غير مأمومين، وهذا هو المعنى «الحقيقي» لغة لكلمة «إمام».
و«الناس جميعًا» لم يجعلوا إبراهيم لهم إمامًا، بقرينة قوله تعالى ردا على سؤاله:
* «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»
إذن فكلمة «الناس» جاءت بمعناها «العام» في سياق «دعوتهم» إلى اتباع «ملة إبراهيم» سواء قبلوها أم رفضوها، وقد نصت الآية على أن الذين رفضوها هم «الظالمون».
والملاحظ أن كلمة «الناس» التي وردت في الآيات المبينة لقصة إبراهيم، وبنائه البيت الحرام، والمبينة لأحكام الحج… وردت بمعناها «العام» المتعلق بدعوة «الناس» إلى اتباع «ملة إبراهيم».
فعندما يقول الله تعالى بعدها:
٢- «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً»
# فـ «الناس» هنا جاءت بمعناها «العام» المتعلق بدعوتهم إلى اتباع «ملة إبراهيم»، أما قوله تعالى بعدها:
* «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى – وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ – أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ»
# فهؤلاء هم الذين آمنوا «من الناس» واتبعوا «ملة إبراهيم» والتزموا بأحكام شريعته، التي لم تتبدل ولم تتغير مناسكها وشعائرها منذ أدّاها إبراهيم وإلى يومنا هذا.
٣- «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً – وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ – قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً – ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ – وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»
# البلد هي «مكة»، وعندما قيّد إبراهيم «الناس» في مسألة الرزق بقيد «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» بيّن الله له أن «الرزق» يشمل الناس جميعًا، المؤمن والكفار، «وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً …».
٤- «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ – رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ – رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ – وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ – وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا – وَتُبْ عَلَيْنَا – إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
# إن «الأمة المسلمة» ليسوا هم «الناس جميعًا»، وإنما الذين اتبعوا الرسل من ذرية إبراهيم، والتزموا بأداء مناسكهم، ولم يشركوا بالله شيئًا، وليس منهم «اليهود والنصارى»، لأن الله تعالى يقول:
* «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً – وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً – وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ»
فكيف يسمح الله تعالى للمشركين بدخول البيت الحرام، وأداء مناسك الحج، وهو القائل:
* «مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ»؟!
٥- «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ – يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ – وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ – إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
# ولقد بعث الله رسوله محمدًا، إذن فلماذا لم يؤمن به «اليهود والنصارى»، وهم يدّعون اتباع «ملة إبراهيم»، وقد قال الله بعدها:
٦- «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ – وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا – وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ»
٧- «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ – قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»
إن اصطفاء الله لإبراهيم قام على «الإسلام والتسليم»، وكان هذا هو محور وصيته هو ويعقوب لأبنائهم:
* «فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»
* «… قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ – إِلَهاً وَاحِداً – وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»
# إذن، وفي ضوء ما سبق، لن يقبل الله تعالى إيمانًا ولا إسلامًا ولا شعائر ولا مناسك من «مشرك».
فعلى أي أساس يُفتي الملحدون بجواز أن تؤدي جميع ملل الكفر مناسك الحج، بدعوى أن الله جعل «الحج» للناس جميعًا، فقال تعالى:
* «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»
إن علينا أن نتدبر سياق هذه الآية من سورة آل عمران، بداية بقوله تعالى:
* «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ»
* «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً»
* «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»
في ضوء ما سبق بيانه من آيات سورة البقرة، ثم نسأل هذا السؤال:
هل يُعقل أن يكون «اليهود والنصارى» الذين كانوا معاصرين لرسول الله محمد، من «الناس» الذين وضع الله لهم البيت الحرام ليحجوا إليه؟!
إن قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» دعوة للناس جميعًا إلى اتباع «ملة إبراهيم»، وهذه مسألة «إيمانية» وليست «تشريعية» تتعلق بأحكام الحج، وبرهان ذلك قوله تعالى بعدها:
* «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ»
فإذا ذهبنا إلى سورة الحج، وقوله تعالى:
* «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»
نسأل أيضا أنفسنا:
هل المقصود بـ «الناس» هنا «الناس جميعًا» بجميع مللهم ونحلهم، أم «الذين آمنوا» منهم، واتبعوا ملة إبراهيم؟!
تعالوا نتدبر الآيات التي بعدها:
* «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ»
* «ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ»
* «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»
نجد أن هذه الآيات تتعلق بـ «أحكام فريضة الحج» التي لن يقبلها الله تعالى من «مشرك»، بقرينة قوله تعالى بعدها:
* «حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ»
فكيف يكون «اليهود والنصارى» من «الناس» الذين ألزمهم الله بـ «أحكام الحج» وهم أصلا كافرون بـ «ملة إبراهيم» كما بينت ذلك آيات سورة البقرة؟!
محمد السعيد مشتهري