إن موضوع «القضاء والقدر» من أصعب وأخطر الموضوعات التي اخترقت «الفكر الإسلامي» منذ القرن الأول الهجري، ولا يعلم عامة المسلمين عن حقيقتها شيئًا، ولا عن الحكمة من إعادة إثارتها في كل عصر!!
لذلك عندما كتبت المنشور الأول «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»، وما بعده، كنت أنظر إلى هذا الموضوع من زوايا مختلفة، تجمع بين إلحاد السلف في آيات الله، وكذلك وإلحاد الخلف، ثم جاء منشور الأمس بنظرة مخالفة.
أولًا:
كيف يخلق الله الإنسان بآليات التفكر والتعقل والتدبر..، ليكون حرًا يأخذ قراره بإرادته، ثم يسلبه هذه الحرية بـ «القضاء والقدر»، فتنقلب سنة الاختيار إلى ضدّها؟!
ثم كيف نريد أن نسلب من الله علمه بـ «قدره وقضائه» المكتوب في اللوح المحفوظ، بدعوى أن هذا «العلم» يُجبر الإنسان على فعل ما كتبه الله وقضى به؟!
ثم كيف لا يعلم الله ماذا ستفعل ذرية آدم وما هي اختياراتهم، ووجود ذلك في اللوح المحفوظ، وقد أخذ سبحانه عليهم ميثاق الوحدانية من قبل أن يخلقهم؟!
فما علاقة «علم الله» المكتوب في اللوح المحفوظ، باختيارات الناس وعملهم وفق ما يعلمون من سنن كونية، هذه الاختيارات التي كتبها الله «لهم» ولم يكتبها «عليهم»؟!
لقد شهد بنو آدم بـ «الوحدانية»، وأنهم لن يتبعوا «الشرك» الذي سيجدون عليه آباءهم، فهل عندما قالوا لله تعالى «شهدنا» لم يكن الله يعلم أن كثيرا منهم سيكفرون بالوحدانية، ولن يلتزموا بما عاهدوا الله عليه؟!
ثانيًا:
إذن يجب أن نُفرّق بين «علم الله» القائم على «قدره وقضائه ومشيئته»، أي على منظومة «الأسباب والمسببات» وعلاقتها بـ «السنن الكونية» التي يتحرك هذا الوجود في إطارها.
وبين «علم الله» القائم على «اختيارات الإنسان»، وأنه اختار الإيمان بإرادته، واختار الكفر بإرادته، وفق منظومة «الأسباب والمسببات».
فالذي اختار الإيمان اختاره بإرادته بناء على منظومة «الأسباب والمسببات»، وفق «قدر الله وقضائه ومشيئته».
والذي اختار الكفر اختاره بإرادته بناء على منظومة «الأسباب والمسببات»، وفق «قدر الله وقضائه ومشيئته».
وهذا معنى قوله تعالى:
* «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ»
لأن اختيارات الإنسان لم تخرج عن علم الله ومشيئته وحكمته، لذلك عقب بقوله تعالى:
* «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً»
ونزل القرآن يذكر الناس بهذه الحقيقة، وأن الإيمان بنبوة رسول الله محمد، والعمل بما أمر الله به في كتابه، أو الكفر به، لم يخرج عن علم الله ومشيئته وحكمته:
«إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ . لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»
ووفق علم الله ومشيئته وحكمته خلق الله أسباب الموت والحياة، وأسباب الإيمان والكفر، وأسباب التقوى والفجور..، وعلى الإنسان أن يختار:
* «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»
فالذي اختار الفجور لم يخرج عن قدر الله وقضائه وعلمه ومشيئته، والذي اختار التقوى لم يخرج عن قدر الله وقضائه وعلمه ومشيئته.
ثالثًا:
وعليه فاعلم:
أن نعمة «الاختيار» هي نفسها من قدر الله وقضائه، فكيف يسلبها الله من الإنسان، وهي متعلقة بـ «مشيئته»؟!
وعليه نفهم قوله تعالى لرسوله محمد:
«قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ»
فإذا فعل رسول الله ما ينفعه، أو ما يضره، يحدث هذا وفق قدر الله وقضائه ومشيئته، لأن الفعل لن يخرج أولًا وأخيرًا عن «مشيئة الله» القائمة على منظومة الأسباب والمسببات.
ولكن هناك قدرًا وقضاءً ومشيئةً لا تعمل وفق منظومة الأسباب والمسببات، فهناك أسباب تجعل الله تعالى يُهلك معظم من في الأرض جميعًا، ولكنه سبحانه لا يفعل، فتدبر لماذا:
* «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ»
* «وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»
* «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ»
ويقول الله تعالي:
* «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ»
* «وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»
* «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً»
إن الأجل في اللسان العربي هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره، وقد بين الله تعالى أن هذا الأجل أجلان، فقال تعالى:
* «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً»
* «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ»
ونلاحظ هنا أن الأجل الأول جاء «منكّراً»، والثاني «مسمّى» عند الله، ولا ننسى أن الله تعالى يخاطبنا بما نراه ونشهد به وعليه ونحن في عالم الشهادة، لا نملك إلا وسائل إدراكه.
فكما نرى موتى نعلم سبب وفاتهم، نرى آخرين لا نعلم سبب وفاتهم، فيذهب الأب ليوقظ ابنه فيجده ميتًا:
* «اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا»
* «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ»
وأخوه بجواره لم يمت:
* «وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»
وينسي المسافر جواز سفره في البيت، فلا يستطع السفر على رحلته المقررة، ثم تسقط الطائرة ويموت كل من فيها إلا هو!!
ولقد أنزل الله آيات تحذر الكافرين من عذاب الدنيا، فلما تأخر إنزال العذاب اتهموا الرسول بافتراء الكذب على الله تعالى.
فهل أنزل الله العذاب على المكذبين فور طلبهم، لإثبات صدق «نبوة» رسوله محمد، وحتى لا يعطيهم فرصة لمزيد من التشكيك والاتهامات لرسوله؟!
لم يحدث هذا، ونزل قوله تعالى:
١- «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً»
٢- «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»
٣- «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ»
٤- «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»
وقد يتأخر العذاب إلى ما بعد وفاة الرسول، ولذلك قال تعالى له:
٥- «وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ»
٦- «فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ»
إذن فهناك آجال عندما تأتي يعلم الناس أسبابها، وآجال لا يعلم الناس أسبابها، والآجال لا تتعلق بالموت فقط، فهناك آجال للإيمان والكفر، فقد أنزل الله تعالى «سورة المسد» في أبي لهب:
* «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ»
فلماذا لم يعلن أبو لهب إسلامه، «نفاقًا»، ليكذب القرآن، وليسقط «نبوة» رسول الله محمد؟!
الجواب:
لأن الله تعالى يعلم أزلًا، وفق منظومة «القدر والقضاء والمشيئة» أن أبي لهب سيسمع هذه السورة تتلى على الناس، ومع ذلك لن يؤمن، لأن أجل كفره ممتد حتى وفاته.
ولكن هل يمكن للآجال أن تتغير استنادا إلى قوله تعالى:
«يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»؟!
محمد السعيد مشتهري