نحو إسلام الرسول

(1167) 13/8/2018 «القدر والقضاء» وليس «القضاء والقدر»

لقد ذكرت في المنشور السابق أن معنى «القضاء» أوسع وأشمل من الذي استخدمته «الفرق الكلامية» لارتباطه بسياقات الآيات الكثيرة التي وردت فيها مادة الكلمة.

أولًا:

فإذا ذهبنا إلى كلمة «القدر» نجد أنها تأتي بمعنى:

١- القدر المحدود:

* «وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ»

٢- الإجلال والتعظيم:

* «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»

٣- الضبط والتحديد:

* «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ»

٤- التفاوت في المقادير:

* «فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»

٥- كمال العلم والقدرة:

«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»

ويفهم من هذه الآية أن «كل شيء» يحدث في هذا الوجود، يحدث بعلم الله وقدرته وحكمته، وذلك من قبل حدوثه.

والقدرة هنا ليست قدرة «جبرية» وإنما قدرة «إبداعية»، تقوم على فعاليات أسماء الله الحسنى والسنن الكونية والتكوينية، فتدبر:

* «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»

* «وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»

وهنا نلاحظ أن في الأمر الإلهي «قضاءً»، وفي مواضع أخرى نجد أن في الأمر الإلهي «قدرًا»، فتدبر:

«وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً»

لتجتمع في الآيتين فعاليات أسماء الله الحسنى كلها في هذا الوجود، «قدرًا وقضاءً»، وليس «قضاءً وقدرًا»، الأمر الذي يختلف كلية شكلًا وموضوعًا عن بدعة «القضاء والقدر» السلفية، التي وقع في فخها أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة!!

ثانيًا:

يقول الله تعالى:

* «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»

* «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»

* «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»

إن العلاقة وثيقة بين تكرار كلمة «الْقَدْرِ» ثلاث مرات، وقوله تعالى «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ».

إن «القَدْر» مصدر قدرت أقدر قدرًا، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور، والقَدَرْ، والقَدْر بمعنى واحد، إلا أن تسكين الدال يجعلها مصدرًا، وفتحها يجعلها اسمًا، والمعنى تقدير الأمور بعلم وحكمة:

* «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»

ثم تدبر قول الله بعدها:

* «وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»

وفي هذا السياق علينا أن نتدبر آيات سورة «الدخان»، وقوله تعالى:

* «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»

فالمراد بـ «الإنزال» هنا، وفي سورة «القدر»، إرادة الله تعالى ومشيئته في إخراج القرآن من «عالم الغيب»، الذي لم يكن يعلمه أحد، ولا حتى الملائكة، ليعمل هذا القرآن في «عالم الشهادة»، وفق ما أمر الله به الملائكة.

وليس المراد بـ «الأمر»، الذي تكرر هنا مرتين، وورد مرة واحدة في سورة «القدر»، ما حملته المخلوقات من «أوامر إلهية» لتعمل وفقها، لأن ذلك حدث يوم خُلقت، مثاله قوله تعالى:

* «وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا»

وإنما المراد الأمر بإنزال القرآن من اللوح المحفوظ، وإعطاء الملائكة المأمورين بالحوادث الكونية «الأوامر» المتعلقة بهذا القرآن، تمهيدا لبعثة رسول الله محمد «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ».

كما نلاحظ أن في قوله تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»

إشارة إلى صفة «الفرقان» التي يتصف بها «القرآن»، وأن القرآن سينزل ليفصل بين الناس في أمور حكيمة، وقد أكد الله ذلك بقوله بعدها:

* «أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا»

ولذلك لم يقل الله تعالى:

* «يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مّنْ عِنْدِنَا»

وإنما أعاد كلمة «أَمْراً»، وجعلها تسبق «مّنْ عِنْدِنَا»، لبيان مدى الاهتمام بهذا الأمر الذي تشرف بكونه من عند الله، أي أمرًا جاء وفق ما اقتضاه علم الله وحكمته.

خلاصة القول لما سبق:

عندما ننظر إلى المحاور القرآنية التي دار حولها المنشور حتى الآن، نجد أنها تحدثنا عن «عالم الغيب» الذي لا نملك وسائل إدراكه، وهذا معناه أن هناك هدفًا آخر وراء هذا الحديث.

ثالثًا:

عندما ننظر في مراجع اللسان العربي، وفي السياق القرآني، نجد أن المحور الأساس الذي يدور حوله «القَدَرْ» هو:

«التقدير والتمييز ووضع الحدود»

والمحور الأساس الذي يدور حوله «القضاء» هو:

«فصل الأمر والحكم فيه وبته وإمضاؤه»

والسؤال:

كيف يأتي «التقدير والتمييز ووضع الحدود»، بعد الـ «فصل الأمر والحكم فيه وبته وإمضاؤه»؟!

إن المنطق يقول إن «القضاء» يأتي بعد «القدر»، لأنه يفصل بين المُقدر، ولذلك نرى ابن منظور يقول في لسان العرب:

«فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه»

وعليه تسقط بدعة «القضاء والقدر» السلفية، ويصبح «القدر والقضاء» منظومة إيمانية تقوم على «منظومة السببية»، وقوله تعالى في سياق قصة ذي القرنين:

* «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً»

* «فَأَتْبَعَ سَبَباً»

وبهذا لا تتقاطع «المنظومة الإيمانية» مع «حرية الإنسان واختياراته»، وإنما تحثه على اتباع ما أودعه الله في هذا الكون من سنن وأسباب، تفعيلا لقوله تعالى:

* «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»

* «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»

لقد اتبعت الدول المتقدمة السنن الكونية والأسباب، فأعطتها من الثمار ما لا يخفى على ذي بصيرة، وظل المسلمون يعيشون داخل منظومة «القضاء والقدر»!!

والسؤال:

ما علاقة كل ما ذكره القرآن عن «علم الله»، وعن «قدره وقضائه»، وعن «إرادته ومشيئته»…، كل مسائل «عالم الغيب»، التي ذكرها الله من أجل بيان فعاليات أسمائه الحسنى في هذا الوجود، ليقيم الناس على أساسها فهمهم لـ «الوحدانية».

ما علاقة ذلك بأن يضع المسلمون تفرقهم في الدين، وتخلفهم العلمي، وتخاصمهم وتقاتلهم…، على شماعة بدعة «القضاء والقدر» السلفية، وأن الله تعالى قال:

* «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ»

* «ثُمَّ قَضَى أَجَلاً»

* «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ»

* «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ»

وأن الله تعالى قال:

«لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ»

وطبعا هم لا يعلمون شيئا عن «علم السياق»، ولا أن قوله تعالى «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» جاء في سياق يستحيل فهم هذه الجملة بمعزل عنه، ومنه الآية التي حملت هذه الجملة، وهي قوله تعالى:

* «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً»

* «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»

* «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ»

* «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»

وبيانه في المنشور القادم

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى