«منذ أقدم العصور، والحديث عن إشكالية التعارض بين «الإرادة الإلهية الأزلية» و«حرية الإنسان» يتجدد كل عصر، ويُعاد إثارة مسألة «القضاء والقدر»، وأن ما يحدث في هذا الوجود يحدث وفق إرادة الله التي لا تتخلف»
بهذه الفقرة بدأت منشور الأمس، ولم أتحدث عن تفاصيل تجدد ظهور إشكالية «القضاء والقدر» بين المسلمين بعد وفاة النبي وتفرقهم إلى فرق ومذاهب عقدية.
فليس من مشروعي الفكري الاستناد إلى التراث الديني لأي فرقة من الفرق لإثبات أن ما «يقوله» أصحاب القراءات المعاصرة في مسألة القضاء والقدر اليوم كان «يقوله» غيرهم منذ القرن الأول الهجري.
ولكن هكذا هو حال من يقودون حركة «الفكر الديني» على مر العصور، يُخرجون من بطون كتب التراث الديني للفرقة التي ولدوا فيها ما يخدم توجهاتهم العقدية، وينشرونه على الذين لا يعلمون ولا يقرؤون، فيظن التابعون أن المتبوعين قد اكتشف ما لم يكتشفه غيرهم!!
لقد «هجروا كتاب الله» الذي جعله الله «آية عقلية قرآنية» ليقرأه المؤمنون قراءة معاصرة، لا ينظرون خلفهم للبحث عن باطل اتبعه أئمة السلف بدعوى تحذير المسلمين منه، فإذا بهم يقيمون قراءاتهم المعاصرة على أنقاض هذا الباطل!!
أولًا:
لم يختلف أئمة السلف على الأصول الإيمانية الخمسة، ولم يسفك بعضهم دماء بعض بسببها، وقد جمعها الله في قوله تعالى:
* «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»
فلماذا سفك المسلمون دماء بعضهم البعض عندما ظهرت «بدعة القضاء والقدر»؟!
لأن الشيطان أراد أن «يَنزَغُ بَيْنَهُمْ» ويضلهم «ضَلالاً مُبِيناً».
إن ما ذكرته في المنشورات السابقة كان بيانًا لبعض جوانب أزمة «القضاء والقدر» التي ظهرت بعد وفاة النبي، بين المثبتين له والنافين، وأنا لست منهم، لا أثبتها ولا أنفيها.
لقد كنت أتحدث عن «بدعة عقدية» ظهرت في القرن الأول الهجري، وعندما أشرت إلى أن أعمار الناس وأعمالهم وأرزاقهم مكتوبة «أو غير مكتوبة»، كان ذلك لبيان ما كان متداولا بين المثبتين والنافين للقدر!!
فالنافون يقولون ردًا على المثبتين للقدر:
إذا كانت الهزيمة هي «إرادة الله» وحكم الطغاة قد «كتبه الله» وموت المريض نتيجة خطأ الطبيب كان «بعلم الله»، إذن فلماذا العمل وإنفاق الأموال الطائلة على أبحاث الطب والصيدلة..، وكل هذا نافذ بقضاء الله وقدره الذي لا يتخلف؟!
* «العاصمة»:
لقد كتبت في منشور سابق «جملة مفيدة» على هيئة سؤال يقتلع «بدعة القضاء والقدر» من جذورها فلا تقوم لها قائمة مرة أخرى، وهو:
١- هل اطلعت على اللوح المحفوظ
٢- فعلمت ما كتبه الله لك أو عليك
٣- وبناء عليه عملت بما علمت
٤- على أساس أن قدر الله نافذٌ لا يتخلف؟!
إن الذي يقول:
١- نعم أنا أعلم ما كتبه الله عليّ
٢- وأني سأموت منتحرًا
أقول له:
٣- إذن اذهب وانتحر
٤- وأكيد ستدخل الجنة لأنك أطعت الله في أمره النافذ
٥- الذي علمته من الله مباشرة عندما كنت جالسًا معه!!
فبأي منطق يُعاد فتح ملف مسألة صنعتها «الفرق الكلامية» في غيبة الفهم الواعي لحقيقة «الوحدانية»، ثم يدعي الذين يفعلون ذلك أنهم يقرؤون القرآن قراءة معاصرة؟!
«أَفَلا تَعْقِلُونَ»؟!
ولمزبد بيان:
ثانيًا:
عندما تفرق المسلمون إلى فرق ومذاهب عقدية انشغل أئمتهم بما يُسمى بـ «علم الكلام»، وهو الكلام عن صفات الله وأسمائه الحسنى، ومن ذلك «بدعة القضاء والقدر».
ولم تنجو فرقة واحدة من الخوض في «بدعة القضاء والقدر»، وما كان لهم أن يخوضوا، فقد احترقت الكعبة وكان ابن الزبير محصورًا بمكة:
فإذا بأناس يقولون: «احترقت بقدر الله»!!
وأناس يقولون: «لم تحترق بقدر الله»!!
والحقيقة التي يجب أن يعلمها كل مسلم هي:
إذا كان تفرق المسلمين في دين الله مصيبة المصائب، فإن مصيبة «القضاء والقدر» أهون منه!!
لقد بدأت أزمة «القضاء والقدر» بمفاهيم محدودة بسيطة، ثم تطوّرت وتعقّدت وتفرّعت المسائل الكلامية حتى وصل بعضهم إلى الخوض في ذات الله تعالى!!
لقد نفى «معبد الجهني» القدر في القرن الأول الهجري، وأنكر علم الله السابق بالأمور، ثم جاء «واصل بن عطاء» المعتزلي وقال إن العبد هو الفاعل للخير والشر، وللإيمان والكفر، وللطاعة والمعصية.
ونلاحظ أن مصطلح «القدرية» مصطلح مشترك بين النافين للقدر والمثبتين له، فتُطلقه كل طائفة على الأخرى، باعتبار أن النفي والإثبات يتعلق بـ «القدر».
ولكنهم، لمجرد التمييز بين النافين والمثبتين، سمّوا النافين بـ «القدرية»، والمثبتين بـ «الجبرية».
إذن فإلى أين تأخذ القراءات القرآنية المعاصرة المسلمين؟!
ثالثًا:
فإذا ذهبنا إلى كتاب الله، القرآن الكريم، نجد أن مفهوم «القضاء» أوسع وأشمل من الذي استخدمته «الفرق الكلامية» لارتباطه بالسياق الذي وردت فيه الكلمة، فيأتي بمعنى:
١- الأمر:
* «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً»
٢- الحُكم والفَصل والفعل:
* «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»
٣- الوحي والعهد:
* «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ»
٤- الخَلْق:
* «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ»
٥- إتمام الشيء والفراغ منه
* «قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ»
٦- الإنفاذ وفق علم البشر:
* «إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا»، أي أنفذها.
# ثم سنتوقف عند المعنى السابع المتعلق بـ «القضاء الإلهي»:
٧- الإنفاذ وفق علم الله الأزلي:
* «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ»
* «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ»
إن استخدام لفظ «القضاء» ونسبته إلى الله «قَضَيْنَا عَلَيْهِ»، «قَضَى عَلَيْهَا»، أي أنفذنا ما قضينا عليه، خير برهان قرآني على أن لحظة «الموت» مقضيٌ بها أزلًا، بصرف النظر عن موافقة ذلك للمثبتين له.
وعليه نفهم الحكمة من استخدام لفظ «القضاء»، «وليس القتل» في سياق قصة موسى، وقوله تعالى:
* «فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ»
إن الله تعالى لم يقل «فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَتَله»، لأن المراد بيان أن «الوكز» حدث، حسب علم الله، لحظة انقضاء أجل الرجل.
ولماذا شمل «القضاء الإلهي» الموت؟!
لأن استخدام فعل «قضى» يوحي بالقدرة والتمكن ونفاذ الأمر وجوبا، لذلك جاء في سياق بيان نفاذ إرادة الله التكوينية:
* «…فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»
فإذا اقتضت الإرادة الإلهية شيئًا فلا يمكن أن يتخلف المراد.
والله تعالى يعلم أن الناس تفر من «الموت»، ويظنون أنهم قادرون على الهروب منه، أو تأخير أجله، فقال تعالى لرسوله:
* «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ»
فتدبر قوله تعالى «فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ»، أي على كل حال أنتم عليه، فررتم أو لم تفروا، حتى «المنتحر» يقابله «الموت» لحظة انتحاره، لأنها هي لحظة أجله المكتوب.
رابعًا:
لقد استطاع الإنسان أن يصنع جهازًا يعمل وفق برنامج يجعله «مُسَيّرًا» في تنفيذ كل ما يريده أن يعمل على الأرض، أو في البحر، أو في الفضاء، في يوم أو في شهر أو في سنة… حتى ينتهي من مهمته، دون أي تدخل منه.
إن هذا الإنسان يعلم علمًا مسبقًا، قبل أن يُرسل الجهاز لأداء مهمته، تفاصيل رحلة الجهاز من أولها إلى آخرها، والأعطال المتوقع أن يواجهها في هذه الرحلة، وكيف سيتدخّل لعلاجها بالتقنيات الحديثة.
ولقد خلق الله هذا الوجود ببرنامج يحمل أوامر تجعل كل ذرة فيه «مُسَيّرة» وفق مشيئة الله وسننه الحاكمة في هذا الوجود، منذ لحظة الخلق وحتى لحظة الفناء التي لا يعلمها إلا الله.
وخلق الله الإنسان وزوده بأدوات وإمكانيات تجعله مختارا في رحلة حياته الدنيا، يأخذ قراره بإرادته، والله يعلم تفاصيل رحلة الإنسان منذ خلقه في بطن أمه وحتى وفاته.
وتعالوا نتدبر قوله تعالي:
* «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»
ثم بقوله تعالى:
* «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ»
* «لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»
والسؤال:
ما هي مشكلتك مع الله تعالى:
«الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ»
١- إذا علمت أنك قبل أن يصورك الله في بطن أمك، قد شهدت له سبحانه بـ «الوحدانية»، وبفعاليات أسمائه الحسنى، وبرهان ذلك قوله تعالى:
* «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ…»
٢- إذا علمت أن الوجود البشري كله، الذي مات والموجود حاليا والذي سيولد، وإلى يوم القيامة، قد شهد معك هذه الشهادة، أي أن هذا الوجود البشري كان موجودًا من قبل أن يوجد على هذه الأرض.
٣- إذا علمت أن كل فرد في هذا الوجود البشري، وهو في عالم الغيب، قد علم كل شيء عن حياته الدنيا، وماذا سيفعل فيها، إلى أن يموت، ويدخل الجنة من يستحقها، ويدخل جهنم من يستحقها:
* «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»
فإذا كان الإنسان استطاع أن يعلم كل كبيرة وصغيرة عن جهاز إلكتروني صنعه، وبرمجه لسنوات، من قبل أن يرسله لأداء مهمته.
فلماذا لا تقبل أن يعلم الله تعالى الخالق كل كبيرة وصغيرة ستفعلها، وكل التحديات التي تواجهها، وكل التأييد والنصر الذي ستحصل عليه منه عز وجل، وأنت ما زلت في عالم الغيب، من قبل أن يرسلك إلى الدنيا؟!
محمد السعيد مشتهري