منذ أقدم العصور، والحديث عن إشكالية التعارض بين «الإرادة الإلهية الأزلية» و«حرية الإنسان» يتجدد كل عصر، ويُعاد إثارة مسألة «القضاء والقدر» وأن ما يحدث في هذا الوجود يحدث وفق إرادة الله التي لا تتخلف.
وعليه فإن كل شيء يحدث في مسيرة حياة الإنسان فهو من «قضاء الله وقدره» لا يستطيع الإنسان أن ينفك عنه، استنادا لقوله تعالى:
* «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ»
وعندما تفرق المسلمون إلى فرق ومذاهب عقدية بـ «وحي شيطاني»، كان من هذا الوحي إعادة «بدعة القضاء والقدر» وإشعال نارها بينهم، فحرقت قلوب الكثير واسودت.
وعلى أنقاض بدع التراث الديني لفرقة «أهل السنة والجماعة»، قامت القراءات القرآنية المعاصرة والتنويرية، التي لا علاقة لها مطلقا بالقرآن، ولا بتدبر القرآن، ولا باستنباط أحكام القرآن!!
وكان من الذين استخدمهم الشيطان للترويج ونشر «بدعة القضاء والقدر» صاحب القراءة المعاصرة الذي تحدث عن هذه البدعة في الفيديو المرفق.
أولًا:
* يقول: يستحيل أن يكتب الله أعمار الناس وأعمالهم وأرزاقهم، مطلقا، ودليل ذلك في «كتاب الله»!!
# أقول: عظيم أن يكون مرجع «بدعة القضاء والقدر» هو «كتاب الله» فنتعلم شيئًا جديدًا لم نكن نعلمه، فماذا فعل لبيان أدلته من كتاب الله، ذهب يتحدث عن تاريخ «بني أمية»!!
* يقول: في بداية العصر الأموي تم تعريف «القضاء والقدر» فقالوا:
«القضاء هو علم الله الأزلي، والقدر هو نفاذ هذا العلم في الواقع»
وبناء على علم الله الأزلي فإن «بني أمية» يجب أن تحكم.
فما معنى «القضاء» في كتاب الله؟!
١- القضاء إخبار:
* «وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ»
* «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ…»
# أقول:
قاصمة: عندما يتعدى فعل «قَضَيْنَا» بـ «إلى» يكون معناه «أوحينا» وليس «أخبرنا»، لأنه لا يستقيم أن نقول «وأخبرنا إليه»، وجاء بـ «قَضَيْنَا» لإفادة معنى الأمر المجزوم به المبتوت فيه، وهو:
* «أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ»
أقول هذا، وأبيّن الفرق، لأهدم النتيجة التي توصل إليها بعد ذلك في مفهومه لـ «القضاء».
٢- انقضاء الأجل:
* «قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ..»
# أقول:
قاصمة: إن فعل «قَضَيْتُ» هنا يعود إلى موسى، وهو بمعنى «وَفَّيْت»، أي وفيت شروط العقد، أما معنى «انقضاء الأجل» ففي قوله تعالى بعدها:
* «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ»
أما استدلاله على «انقضاء الأجل» بقوله تعالى:
* «…فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ…»
فتلاعب بفقه اللغة العربية والتمييز بين الحقيقة والمجاز.
فـ «النحب» في اللغة العربية معناه «النذر»، فإذا ذهبنا إلى الآية من أولها، نجد أن الله تعالى يقول:
* «مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ»
* «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»
إن قضاء النحب منسوب إلى المؤمن وليس إلى الله، وإلا لقال تعالى «قُضَى نَحْبَهُ»، أي بتدخل خارجي.
فمعنى «صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» صدقوا في تفعيلهم ما أخذوه على أنفسهم من «نذر» واجب الوفاء، فمنهم من وفى بـ «بنذره» فقُتل في المعركة، ومنهم من ينتظر.
أما استخدام كلمة «النحب» بمعنى «الموت» وانقضاء الأجل، فهذا على سبيل «الاستعارة» وليس على المعنى الحقيقي، بقرينة «قَضَى» المنسوبة إلى المؤمن، وليس «قُضَى» المنسوبة للتدخل الخارجي.
٣- الأمر ضد النهي:
* «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً…»
# أقول:
قاصمة: عندما ينسب «القضاء» إلى الله تعالى، يجب أن نتوقف، ولا نجعله أمرًا يقابل نهيًا، كما هو معروف فيما يتعلق بأحكام القرآن، كقوله تعالى:
* «وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ»
فـ «قضاء الله» يتعلق بـ «فعاليات أسمائه الحسنى»، التي لا تقبل التبديل ولا التغيير ولا النسخ، فالقاضي عندما يحكم حكمًا في أول درجة لا يكون قد قضى بحكمه على المتهم، إلا إذا كان حكمًا باتًا على سبيل الجزم والقطع لا استئناف فيه.
وهذا معنى «وَقَضَى رَبُّكَ».
٤- أمر الله النافذ:
* «…إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»
نعم، هو أمر الله البات الجازم النافذ.
وهذا هو المعنى الوحيد الذي يتفق مع قائله العقلاء جميعًا، لأنه لا يحتاج إلى تخصص علمي.
ثانيًا:
نلاحظ أن صاحب القراءة المعاصرة لم يأت حتى الآن بالبراهين القرآنية التي تثبت أن أعمار الناس وأعمالهم وأرزاقهم غير مكتوبة مسبقا قبل أدائها.
والآن، وكعادته، يخرج عن الموضوع، ويذهب بعيدا إلى موضوعات الهدف منها إصابة القارئ أو المستمع بـ «صداع نصفي»، فيقول:
فإذا نظرت إلى هذا «القضاء» تجد أن له علاقة بـ «المعرفة»، وله علاقة بـ «القرار»، فالقضاء إن كان من الله أو من الناس، هو حالة نفي وإثبات لـ «موجود»، أما «القدر» فهو «الوجود» نفسه.
# أقول:
قاصمة: إن مساواة «قضاء الله» بـ «قضاء الناس» أكبر مصيبة فكرية إلحادية يشهدها عالم «الفكر الإسلامي»!!
ثم أين الآيات القرآنية التي تُبيّن أن «قضاء الله» حالة نفي وإثبات لموجود، وأن «القدر» هو الوجود نفسه؟!
من أين جاء بهذا «العك الفكري»، وأن قضاء الله له علاقة أصلًا بقضاء الناس الذي يحتاج إلى نفي وإثبات؟!
* ثم يقول:
فـ «القدر» هو الوجود خارج وعي الإنسان وخارج إرادته:
«نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ»
فالله قال عن الموت إنه «قدر» ولم يقل إنه «قضاء»، فعندما يموت إنسان يقولون مات «قضاءً وقدرًا»، أقول: كلا، الله يحي ويميت ولكن لا يقتل.
# أقول:
قاصمة: هذا كلام لا محل له من الإعراب في أصول البحث العلمي، فما الفرق بين أن يقول الله تعالى:
– «نحن قدرنا موتكم»، فيموت الوجود البشري كله.
– «قدرنا فيكم الموت» أي خلقناه فيكم، وهذا مستحيل.
– وبين «قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ»؟!
إن قوله تعالى: «نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ» هي البرهان قطعي الدلالة على تهافت وبطلان قول صاحب القراءات المعصرة إن الله تعالى لك يكتب «الأعمار ولا الأعمال ولا الأرزاق» على الناس.
إن المسألة لا علاقة لها مطلقا بـ «القضاء والقدر»، فالموت هنا «مُوَزّع» بين الناس، تدبر جملة «بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ»، فعندما يأتي «دورك» ستأخذ نصيبك من الموت «المّقدّر» سلفا عند الله.
فتخيل أن الوجود البشري جالس في استاد على هيئة دائرة، ينتظرون توزيع الطعام عليهم، ولن يخرج أحد منهم من الاستاد إلا وطعامه في يده، فهل سيفلت منهم أحد؟!
* ثم يقول:
ولم يذكر الله في كتاب الله أنه قتل إلا مرة واحدة:
* «…فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ…»
# أقول:
قاصمة: إن هذه الآية هي خير دليل على أن «المقتول» لا يُقتل إلا وموعد قتله معلوم في اللوح المحفوظ، ولا علاقة بين هذه الحقيقة الإيمانية وبين أنها جاءت في آية واحدة أو في مئة آية!!
* ثم انظروا كيف قرأ باقي الآية بالمعنى الذي يحمله في ذهنه فقال: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيت»
والصحيح: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى»
وطبعا مقدم البرنامج جاهل لم يصحح له الآية.
ثالثًا:
هناك ملاحظة هامة تكشف عن «القاعدة الفكرية الماركسية» التي ينطلق منها صاحب القراءات المعاصرة في فهمه للقرآن حيث قال إن «الماركسية» أعطت للقضاء والقدر تعريفًا ناقصًا في الواقع!!
# أقول:
قاصمة: ما علاقتك أنت يا صاحب القراءات المعاصرة، وما علاقة البراهين الدالة على أن «الأعمار والأعمال والأرزاق» ليست في مكتوبة في اللوح المحفوظ..، ما علاقة ذلك بـ «مبادئ الماركسية»، حتى تقحمها في حديثك وتشيد بها مع إضافة بعض الملاحظات؟!
ومن منطلق «مبادئ الماركسية»، يُلحد في آيات الله لصالحها، ويستدل بقوله تعالى:
* «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»
ويقول:
١- «فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى»: ظاهرة طبيعية
٢- «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ»: فعل «مضارع»
٣- إخراج الميت من الحي جاء بـ «اسم فاعل» فقال:
«وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ»
٤- إذن فرب العالمين أخرج الموت، ولكن لا نقول عن المقتول إن الله قتله، وإنما نقول مات لأن الله أخرج الموت.
ولو قال «ويُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ»، نستطيع أن نقول عن المقتول إن الله هو الذي قتله، وهذا هو مفهوم «القضاء والقدر» الذي عليه الناس اليوم.
# أقول:
قاصمة: يتحدث ويستخدم اللغة العربية من غير فهم لها ولا لفقهها، فقد جاء فعل «يُخْرِجُ» في قوله تعالى:
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ»
لبيان الاعتناء بالفعل في كل حين وتجدده، بيانًا لقوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى»
لأن فلق الحب والنوى من جنس إخراج الحي من الميت.
وجاء اسم «مُخْرِجُ» في قوله تعالى:
«وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ»
لأن «الاسم» لا يفيد الاعتناء بالفعل في كل حين وتجدده على الدوام، لذلك كان الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي.
محمد السعيد مشتهري