عندما يسمع أهل البيت بعد منتصف الليل طرقًا على الباب، فيجتمعون أمامه سائلين بصوت خفي من الطارق، فلا يجيب أحد.
فينظر بعضهم إلى بعض، ويهمس بعضهم في أذن بعض، من الذي سيطرق الباب في هذا الوقت، ومن الطبيعي أن يختلفوا حوله!!
فلما أعادوا السؤال، إذا بالطارق يكشف عن هويته ويقول أنا فلان.
وبصرف النظر عن الأسباب التي جعلته لا يجيب أول مرة، فإن الذي أريد أن أقوله إن أهل البيت يستحيل أن يتفقوا على هوية الطارق إذا لم يُعلن هو عن نفسه.
والسؤال:
هل أعلن أحد، منذ خلق الله آدم وإلي يومنا هذا، وقال للناس إنه «رب العالمين» الذي خلق هذا الوجود؟!
لا أحد مطلقًا، قولًا واحدًا.
إذن فبأي منطق، يؤمن «المشركون» بوجود الله، ويكفرون بـ «الوحدانية»؟!
أولًا:
إن الفهم الواعي لحقيقة «الوحدانية» هو «الفريضة الغائبة» قرونا من الزمن عن حياة المسلمين، وإلا ما تفرقوا في «دين الإسلام»، وما أعطوا ظهورهم لتحذير الله لهم من التفرق في الدين:
* «…وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
ولذلك لا عجب ولا تعجب، ولا غرابة ولا استغراب، عندما ننظر بعين البصيرة إلى حال ما يُسمى بـ «الفكر الإسلامي»، كمنظومة دينية ومظلة فكرية تغطي المسلمين في أنحاء العالم.
ونسأل أنفسنا:
أين المسلمون المنشغلون بالحديث عن الفهم الواعي لحقيقة «الوحدانية»، وبيان ذلك للناس من خلال القرآن وحده، وليس من خلال كتب الفرق الكلامية والمذاهب السلفية والوهابية؟!
إن انتشار «الإلحاد في آيات القرآن وأحكامه» واتساع مظلته «الماركسية» بين المسلمين، وخاصة الشباب منهم، يرجع إلى:
١- الجهل بحقيقة «الوحدانية» وبـ «فعاليات أسماء الله الحسنى».
٢- انشغال شبكات التواصل الاجتماعي بـ «الترف الفكري»، و«التفاهات الذهنية»، بعيدًا عن «الفريضة الغائبة»، فريضة الفهم الواعي لحقيقة «الوحدانية».
٣- خلو «البيت المسلم» من أي دليل يثبت أن أهله يعيشون تحت مظلة الفهم الواعي لحقيقة «الوحدانية»، وأنهم يرفضون أي شبهة شرك تحاول أن تتسرب إلى قلوبهم وقلوب أولادهم، وخاصة من أجهزة الإعلام والأجهزة المحمولة.
وبناء عليه:
هل يمكن لمؤمن أسلم وجهه لله تعالى، أن يُعجب بمشروع فكري يحمل قراءات قرآنية معاصرة، لم يكتف صاحبها بهدم «أحكام القرآن» بمبادئ «المادية الجدلية الماركسية»، وإنما راح يهدم أيضًا «الوحدانية» بمبادئ «جدل الكون الماركسي»؟!
ثانيًا:
إن الذي يقيم «إيمانه» على الأصول الخمسة، ويقيم «إسلامه» على التسليم والخضوع والطاعة لكل ما أمر الله به، يعلم «علم اليقين» ماذا يعني قوله تعالى:
١- «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»
٢- «إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»
٣- «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ»
إن المتدبر لسياق الآيات التي وردت فيها هذه الجمل القرآنية، يعلم أنها وردت في سياق بيان فعاليات أسماء الله الحسنى منذ خلق الله هذا الوجود، ووصولًا إلى يوم القيامة، وأن المحور الأساس الذي يجب أن تدور حوله هذه الحياة الدنيا هو «الوحدانية».
ونلاحظ أن المحور الأساس الذي تدور حوله هذه الجمل القرآنية محور واحد هو «كُنْ فَيَكُونُ»، وهذا يعني أن «أمر الله وإرادته وقضاءه» خارج الزمان والمكان، لأنه كائن من قبل أن يكون.
لقد خلق الله «الوجود البشري» أولا في عالم الغيب بكلمة «كُنْ»، من قبل أن يخلقه في عالم الشهادة.
وعلم الله «مسيرة حياة» كل فرد من أفراد هذا «الوجود البشري» منذ ولادته وحتى وفاته، فتدبر:
* «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»
إن بني آدم لم يُخلقوا بعد، فكيف شهدوا بـ «الربوبية»؟!
لقد شهدوا بـ «الربوبية» باعتبار ما يجب أن يكون.
فلماذا إذن كفر منهم من كفر، وآمن من آمن، عندما خرجوا إلى هذه الحياة الدنيا؟!
لأنهم خرجوا من دائرة «علم الله المطلق»، دائرة عالم الغيب، إلى دائرة عالم الشهادة حيث «اختياراتهم» التي يعلمها الله مُسبقًا، وهذا ما أفاده قوله تعالى بعد خروجهم إلى عالم الشهادة:
* «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
فلا عذر لأحد يوم القيامة بـ «الغفلة» عن ميثاق الربوبية، ذلك أن الإنسان عندما يخرج إلى الدنيا سيجد «دلائل الربوبية» في كل ذرة من ذرات المكان الذي يعيش فيه.
ولا عذر أيضا بـ «الآبائية»، والقول بأن المشكلة كانت في شرك الآباء، وفي تراثهم الديني الذي كنا نحاول تنقيته ونُجدّده ونقرأه قراءة معاصرة:
* «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ»
ولاحظ أن التحذير جاء من «الغفلة» ومن «الشرك»، ثم من مصير الاثنين، وهو
الهلاك يوم القيامة:
* «أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»؟!
ومازال الباب مفتوحًا:
* «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»
ثالثًا:
عندما يكون «أمر الله وإرادته وقضاءه» لا يحده زمان ولا مكان، وهو كائن من قبل أن يكون، إذن فما مشكلة المسلمين، وما مشكلة الفرق الكلامية، وما مشكلة الملحدين وأصحاب القراءات القرآنية المعاصرة:
١- أن يخلق الله هذا الوجود بكلمة «كُنْ»، ويعلم مسيرة كل ذرة فيه، وحياة كل مخلوق فيه، منذ لحظة الخلق إلى لحظة الفناء.
أليست هذه هي إرادة الله، والله يقول:
* «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ – إِذَا أَرَدْنَاهُ – أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»؟!
لقد جاءت «فاء» التعقيب في كلمة «فَيَكُونُ» لإفادة سرعة خلق الشيء بمجرد تعلق قضاء الله وأمره به، وليس للزمن أي اعتبار.
فبأي منطق يتحكم الملحدون في «إرادة الله» ويريدون تقييدها بـ «الخلق» فقط، أما «مسيرة» المخلوقات بعد ذلك، وطبعا المقصود الإنسان، فلا يعلم الله عنها شيئًا إلا بعد وقوع أحداثها؟!
٢- أن يكون القرآن، من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، موجودًا في عالم الغيب، في اللوح المحفوظ، ثم بدأ يتنزل على رسول الله وفق مشيئة الله وإرادته.
فكيف لا يعلم الله فعاليات كل ما جاء في القرآن حتى وفاة الرسول، وذلك من قبل أن تقع، وهو سبحانه القائل:
* «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ . فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ»
* «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ»
إن «علم الله المطلق» بأحداث عصر التنزيل من قبل حدوثها، لا تأثير له مطلقا على سير الأحداث وفق إرادة الناس واختياراتهم.
ذلك أن «علم الله المطلق» علمٌ أزليٌ بـ «ما كان – وما هو كائن – وما سيكون» من قبل خلق الوجود.
٣- إن «علم الله المطلق» هو الذي خلق الله الوجود على أساسه، ولا علاقة له مطلقًا بمسيرة حياة الإنسان وحريته في اختياراته، كيف وقد خلق الله الإنسان أصلًا «مخيّرًا»؟!
إن الحالة الوحيدة التي يحق للإنسان بسببها أن يقول:
«إنه يتحرك في هذه الحياة وفق مشيئة الله، وليس وفق مشيئته هو واختياراته»
أن يكون الله قد أطلعه على:
«عالم الغيب» وعلى «علمه المطلق»
فعلم أن موت «أ» كان وفق مشيئة الله، وليس وفق مشيئة «أ».
وأن موت «ب» كان وفق مشيئته هو، وليس وفق مشيئة الله!!
محمد السعيد مشتهري