عندما تسجل الأجهزة الرقابية فيلماً عن قضية «رشوة»، من بدايتها إلى نهايتها، ويتم القبض على المتهمين، وأثناء التحقيق مع المتهمين، بناء على ما تم تسجيله «دون علمهم»، أنكروا ما نُسب إليهم من اتهامات، فعُرض الفيلم عليهم فاعترفوا بجريمتهم.
والسؤال:
هل يستطيع أحد من المتهمين أن يقول للأجهزة الرقابية:
إنكم الذين أجبرتمونا على ارتكاب هذه الجريمة، لأنكم كنت تعلمون حدوثها، بدليل هذا «الفيلم التسجيلي»؟!
هذه هي القضية الأزلية المتعلقة بموضوع «القضاء والقدر» الذي لا أصل له في القرآن، ولا هو من أصول الإيمان الخمسة، وإنما من بدع «الفرق الكلامية » التي ظهرت في القرن الثاني الهجري!!
أولًا:
لقد خلق الله تعالى هذا الوجود ويعلم ماذا ستفعل كل ذرة فيه من قبل أن تفعل، وخلق الإنسان «مخيرًا» ويعلم مسيرة حياته واختياراته من قبل أن يولد:
* «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»
إن «الكتاب» الذي سيقرأه الإنسان يوم القيامة، كهذا الفيلم الذي سجلته الأجهزة الرقابية، فهي «تعلم» كل ما حدث من قبل مواجهة المتهمين به.
ولم تقيد حرية المتهمين واختياراتهم لاستكمال الجريمة التي فعلوها بكامل إرادتهم.
إن الله تعالى يعلم ما في «الكتاب» الذي سيقرأه الإنسان يوم القيامة «علمًا مسبقًا مطلقًا»، وإلا ما كان الله ربًا وإلهًا، يعلم الظاهر والباطن، فتدبر:
* «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ»
* «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»
* «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا»
* «وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ»
وكلها كناية عن علم الله المسبق عما يحدث في الكون من قبل أن يحدث، والذي لا تأثير له مطلقا على اختيارات الإنسان، ولذلك قال تعالى بعدها:
* «إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»
ثانيًا:
إن أول صفة من صفات المتقين:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»
والذي يحمل وسائل إدراك عالم الشهادة، يستحيل أن يُدرك شيئًا من عالم الغيب، إلا في حدود ما أخبر الله به من باب ضرب المثل وتقريب المعني، وتفصيل ذلك في القرآن.
وليس للمؤمن مرجع يرجع إليه لفهم دين الإسلام وكل ما يتعلق بـ «عالم الغيب» غير القرآن.
فعندما يخرج علينا من يقول:
«إن علم الله يحمل الصفة الرياضية المتصلة والمنفصلة معا»
فعلينا أن نسأل أنفسنا:
هل في القرآن أي إشارة تبين أن «علم الله» يقوم على «علم الرياضيات»؟!
وعندما يُقسّم المؤلف علم الله إلى:
«علم يقيني وعلم احتمالي»
ويقول إن علم الله الاحتمالي هو:
«علم الله بالسلوك الإنساني الواعي وبالاختيار الإنساني»
فعلينا أن نسأل أنفسنا:
هل يوجد في القرآن أي إشارة تفيد أن «علم الله بالسلوك الإنساني الواعي وبالاختيار الإنساني» علمٌ احتماليٌ؟!
لقد أمر الله رسوله محمدًا أن يقيم الليل إلا قليلا:
* «قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً»
وقام رسول الله وبعض صحابته الليل، وكان في علم الله «المسبق» أنهم لا يستطيعون الالتزام بهذا القيام على الدوام لأسباب ذكرتها الآية بعد ذلك، فنزل قوله تعالى:
* «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ – وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ – عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ – فَتَابَ عَلَيْكُمْ..»
ولقد جاءت كلمة «عَلِمَ» بصيغة الماضي، وجاءت جملة «لَنْ تُحْصُوهُ» لنفي فعل يعلم الله حدوثه مستقبلا.
وتعتبر هذه الآية من مئات البراهين القرآنية الدالة على أن الله يعلم ما يحدث في الكون من قبل حدوثه.
* «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ – وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ – وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»
ثالثًا:
ويقول الله تعالى، ردًا على إلحاد الملحدين في آياته على مر الرسالات، من لدن آدم وإلى قيام الساعة:
* «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ – وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ – وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً»
إن الذين يتحدثون عن «علم الله»، الذي لا يحكمه زمان ولا مكان، من الضالّين المضلّين، فهل طلب الله منهم أن يساعدوه في الخلق!!
إذن فمن أين عرفوا أن الله لا يعلم اختيارات الإنسان وسلوكياته إلا على سبيل «الاحتمال»؟!
إن «نظرية الاحتمالات» تقوم على توقع حدوث أحد الاحتمالات، وعلم الله علم يقيني لا يخضع للتوقعات.
إن الله تعالى يعلم أن زيدًا سيختار أحد الاحتمالات، قبل أن يختار أصلًا، ولم يجبره على هذا الاختيار الذي تم بإرادته.
فتعالوا نتدبر ماذا يقول المؤلف عن علم الله اليقيني المسبق:
«…لو كان يدخل في علم الله منذ الأزل ماذا سيفعل زيد في حياته الواعية وما هي الخيارات التي سيختارها … فالسؤال لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك»؟!
انظروا وتدبروا هذا السؤال الساذج الجاهل:
«لماذا تركه إذا كان يعلم ذلك»
إن المؤلف ينكر علم الله بما سيفعله زيد، ثم يخلط بين علم الله المطلق للحوادث من قبل أن يحدث، وبين أن الأحداث تحدث وفق سنن إلهية خلقها الله في الكون.
وإن من هذه السنن الإلهية أن الإنسان مُخيّر في أفعاله كلها:
* «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»
إن الله تعالى يعلم أن زيدًا سيختار الفجور، ثم سيختار التقوى، وقد يعود إلى الفجور..، إن الله يعلم مسيرة زيد واختياراته الواعية، التي اختارها بكامل إرادته، ولم يجبره على فعل شيء.
ومع أن هذه المسألة أبسط وأيسر في الفهم من غيرها من المسائل العقدية، إلا أننا نجد المؤلف يقول:
«إن هذا الطرح لا يترك للخيار الإنساني الواعي معنى، وإنما يجعله ضربًا من الكوميديا الإلهية مهما حاولنا تبرير ذلك…»
يكفي أن نتدبر قوله إن علم الله «من الكوميديا الإلهية»!!
رابعًا:
عندما يتحدث المؤلف عن «علم الله» في فصل بعنوان «جدل الكون»، وقد سبق الحديث عن هذا العنوان في منشورات سابقة وبيان المبادئ الماركسية التي أقام عليها قراءاته المعاصرة للقرآن، وادعائه أنه يستنبط هذه المبادئ «الديالكتيك» من القرآن، فيقول:
«… سميت آيات النبوة قرآنا من الاستقراء، فمن القرآن نستقرئ النظريات العلمية المادية والتاريخية…»
فمن أين جاء المؤلف بأن «القرآن» من «الاستقراء»، الذي هو تتبع الجزئيات للوصول إلى نتيجة كلية، ومادة الاستقراء هي «قري» بالياء وليس بالهمزة؟!
الحقيقة أن المشكلة ليست مشكلة المؤلف الجاهل ببدهيات اللغة العربية، وإنما مشكلة الذين استخف عقولهم فاتبعوه!!
إن المؤلف يقرأ القرآن «قراءة ماركسية معاصرة»، أقامها على مبادئ «الفلسفة المادية للوجود»، التي تقول «لا إله والكون مادة»، فجعل فلسفات البشر حاكمة على دين الله تعالى.
وإلا ما الذي يدفعه إلى الخوض في «الذات الإلهية»، فإذا اصطدم بقواعد اللغة العربية، وبأصول علم السياق، ألحد في القواعد، وهدم الأصول؟!
محمد السعيد مشتهري