يعيش الناس منذ ولادتهم وحتى يوم وفاتهم بقلب واحد يحمل كتاب حياتهم، هذا الكتاب الذي سيقرؤونه في الآخرة.
* «…وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً»
* «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
تدبر: «كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً»
ولو فقه الناس وعقلوا، أن هذا القلب الذي يحملونه في صدورهم، هو نفسه الذي سيتم تفريغ بياناته في الآخرة، وعلى أساس هذه البيانات يتحدد مصيرهم، إما جنة أو جهنم.
ما افتروا على الله الكذب لحظة، ولكن المشكلة في:
* «فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ»
* «وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»
يقولون: إن شروط دخول الجنة ثلاثة، فقط لا غير:
«الإيمان بالله – واليوم الآخر – والعمل الصالح»
فيخدعون الذين لا يعلمون أن كل شرط من هذه الشروط يحمل في الحقيقة «دين الإسلام» باعتباره منظومة إيمانية متكاملة، مترابطة متصلة الحلقات، تشمل:
عالم الغيب: «الإيمان بالله واليوم الآخر»، وله تفصيل يطول شرحه.
وعالم الشهادة: «العمل الصالح»، وله تفصيل يطول شرحه.
ولكن السؤال:
هل معنى أن يذكر الله «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» في سياق الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، دون أن يشير إلى إيمانهم بـ «اليوم الآخر»، أن نُسْقط «اليوم الآخر» من المنظومة الإيمانية؟!
تعالوا نلقي نظرة سريعة على كيف يكون الإيمان بـ «اليوم الآخر» منظومة إيمانية متكاملة تشمل «دين الإسلام»، «ملة وشريعة»، من خلال تدبرنا لسياق بعض آيات سورة «ق».
أولًا:
إن «القلب» يعمل عمل كاميرات المراقبة، ولكنه يُسجّل الظاهر والباطن معًا، وليس فقط الظاهر، فيقول الله تعالى «الآية ١٦»:
* «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ»
إن الذي يعلم ما توسوس به نفسك هو «الخالق» عز وجل، الذي أكد على بيان علمه «المطلق» بقوله تعالى بعدها:
* «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»؟!
ويجب أن نعلم أن الحديث عن مشاهد عالم الغيب يستلزم التقيد بظاهر النص ودلالاته في اللغة العربية، دون أي توسع أو تأويل باطني.
فلا شك أن الذين خاطبهم الله بهذا القرآن كانوا يعلمون معنى «حَبْل الْوَرِيدِ»، ولكن هل بيّن القرآن هذا المعنى في أي آية من آياته، وأن «الوريد» هو العرق الذي يجري فيه الدم ليصل إلى كل جزء من أجزاء جسم الإنسان؟!
إن القرآن لم يُبيّن ذلك.
إذن فـ «منظومة التواصل المعرفي» تستمد حجيتها من حجية القرآن، لأنها هي التي نقلت لنا معنى «حَبْل الْوَرِيدِ»، وهذا عن المعنى الحقيقي لـ «حَبْلِ الْوَرِيدِ».
فإذا أضفنا إليه جملة «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ» تحول المعنى من الحقيقة إلى «المجاز»، ليكون المقصود «علم الله المطلق» الذي لا تحده حدود، ولا تمنعه حواجز.
وهذا ما أفاده التعبير البليغ «أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ»، الذي يبين أن علم الله لا يحجبه شيء، فالله تعالى أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده.
ولكن علينا أن نعلم أن الله يحدثنا عن «عالم الغيب» باللغة التي نعلمها ونحن في «عالم الشهادة».
ولذلك يستحيل أن يكون حديث لنا عن حقيقة ما يحدث في «عالم الغيب»، وإنما هو من باب تقريب المعنى.
ثانيًا:
إذا كانت أجهزة الاستخبارات العالمية قد توصلت إلى زرع شيء في جسم الإنسان ينقل إليهم تحركاته، فإن أجهزة المراقبة الإلهية تجري في دم الإنسان الذي يحمله «الوريد»…، فكن يقظًا.
ويزيد الله الأمر بيانًا وتحذيرا عندما نعلم أن هناك ملائكة تسجل كل كلمة نتلفظ بها:
* «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ»
* «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»؟!
«الرقيب»: هو الحاضر المراقب
و«العتيد»: هو المهيأ للعمل
وليس كما نُقل عن «السلف» أنهما ملكان «رقيب وعتيد».
وفي حدود إدراكنا لدلالات الكلمة المتعلقة بعالم الغيب، نعلم أن المقصود من هذه الآية أن يشعر الإنسان أنه مراقب من على يمينه ومن على شماله، وأن كل كلمة وكل حركة تسجل عليه.
إذا أردنا أن ننقل ما أدركنا دلالته من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ونسأل أنفسنا:
هل جربنا أن نعيش يومًا ونحن نشعر بأن هناك كاميرات مراقبة تسري في أوردتنا تسجل كل لحظة نعيشها؟!
ثم ماذا لو كانت هذه اللحظة هي لحظة الوفاة؟!
ولذلك انتقل السياق إلى هذه اللحظة باستخدام فعل «المجيء»:
* «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ»
واستخدم صيغة الماضي «وَجَاءَتْ» لبيان أن هذه السكرة ستأتي لا مفر منها، واستخدم مادة «السُكْر» لبيان هول الموقف، وكأن الموت نفسه شراب مسكر غيّب عقل المتوفى.
إنها حقًا «سَكْرَة»، تصيب الإنسان «فجأة»، فآخر شيء يمكن أن يُفكر فيه الإنسان هو الموت:
* «ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ»
إن هذا المشهد يراه الإنسان يقينًا عند «سَكْرَةُ الْمَوْتِ»، ولكن بعد فوات أوان «الإدراك» وأوان «التوبة».
ثالثًا:
وبعد سكرة الموت، يظل الإنسان، وتظل النفس، في عالم «البرزخ» إلى يوم يبعثون:
* «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ»
تدبر: لماذا استخدم السياق كلمة «الوعيد» ولم يستخدم «الوعد» أو «الجزاء»؟!
لبيان أن «أهل جهنم» هم الأكثر عددًا مقارنة بـ «أهل الجنة».
لذلك سُمّى اليوم بـ « يَوْمِ الْوَعِيدِ»، أي اليوم الذي ينجز الله فيه وعيده على المنافقين والكافرين والمشركين.
ويُصور السياق القرآني مشهد الحساب في الآخرة بأسلوب يجمع بين معنى الكلمات التي تعبر عنه، وبيان أن الحساب يقوم على الحق والعدل وشهادة الشهود:
* «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»
ولا نعلم من هو «السائق» المصاحب للنفس، ولا من هو «الشهيد» الذي سيشهد عليها، وهل هما الملكان الكاتبان أم غيرهما.
إن كل ما يهمنا أن نعلمه هو قوله تعالى بعدها:
* «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا – فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ – فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»
لقد ظهرت الحقائق كلها بعد زوال الموانع والحواجز التي كانت تحكم توجهات الناس الفكرية والعقدية في الدنيا.
فهل كان يمكن أن نفهم كلمة واحدة من كلمات الآيات التي وردت في هذا المنشور دون دراية بـ «علوم اللغة العربية»؟!
هل كان يمكن أن نفهم كلمة واحدة من كلمات الآيات التي وردت في هذا المنشور دون الإقرار بحجية «منظومة التواصل المعرفي»؟!
رابعًا:
ويستمر عرض مشاهد يوم القيامة حتى نصل إلى قوله تعالى «الآيات ٣١-٣٣»:
* «وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ»
# الجنة: لِلْمُتَّقِينَ
* «هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ»
# الجنة: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
* «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ»
# الجنة: لـ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
# الجنة: لمن جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ
إن كلمة «منيب»: فاعل من «أناب»، وأناب فلان إلى الشيء أي رجع إليه أكثر من مرة.
و«القلب المنيب»: هو القلب المتلبس بـ «الإِنابة»، أي الذي تشرب «الإنابة» فيرجع إلى ربه دوما تائبًا.
وهؤلاء يقول الله تعالى لهم:
* «ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ»
ومجمل القول:
١- الذين يقولون إن شروط دخول الجنة ثلاثة:
«الإيمان بالله – واليوم الآخر – والعمل الصالح»
هؤلاء هم الملحدون في آيات الله، ولا محل لهم من الإعراب.
٢- إن أهل الجنة هم الذين دخلوا «دين الإسلام» من باب «آيته العقلية القرآنية»، وعملوا بكل ما حملته نصوص هذه الآية من أحكام، وأنابوا إلى ربهم،
وحافظوا على سلامة قلوبهم:
* «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»
٣- إننا لسنا من جنس الملائكة، ولسنا من الأنبياء، وقلوبنا فارغة، تحتاج دوما إلى شحنات إيمانية، وتوبة واستغفار وإنابة، ولكن من الذي يفعل ذلك؟!
«مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ» – «وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ»
محمد السعيد مشتهري