إن ما جاء في الفيديو المرفق ستعلمونه، وللرد عليه، واقتلاع جذور هذه القراءات الإلحادية المعاصرة، علينا أن نصبر ونصبر ونتدبر الآيات «٤١-٥١» من سورة المائدة على النحو التالي:
أولًا:
«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ»
من هم الذين كانوا يسارعون في الكفر في عصر التنزيل؟!
١- «المنافقون»:
«مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ»
٢- «الَّذِينَ هَادُوا»:
* «وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ»
# لا يستمتعون إلا بسماع الكذب، وبالكذب على رسول الله لصالح وحساب قوم آخرين لا يحضرون مجلس الرسول:
* «سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ»
# كما كانوا:
* «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ»
# ولم يقل «عن مواضعه» لبيان أنهم كانوا يذهبون في تحريفهم وإلحادهم إلى خارج حدود المعاني التي وضعت لها الكلمة، كما يفعل «الملحدون» اليوم!!
* «يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا»
ثانيًا:
لقد جعل الله طريق الهدى وطريق الضلال وفق مشيته، فمن اختار السير في طريق الهدى فقد اختاره بإرادته وفق مشيئة الله، ومن اختار طريق الضلال فقد اختاره بإرادته وفق مشيئة الله، ولذلك:
* «وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً»
وهذا هو حال «المنافقين» و«الَّذِينَ هَادُوا» في عصر التنزيل:
* «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ»
* «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»
* «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ»
# والسؤال:
هؤلاء هم «الَّذِينَ هَادُوا»، الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى الذي يُلحد فيه «الملحدون»:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»
# إذن فمجيء «الَّذِينَ هَادُوا» في سياق هذه الآية يعني أنهم الذين اتبعوا موسى، عليه السلام، قبل بعثة رسول الله محمد، وحققوا الشروط المذكورة في الآية، وليسوا هم الذين ذمهم الله في سياق الآيات السابقة.
فكيف يُدخل الله «الَّذِينَ هَادُوا» الجنة، وهم لم يؤمنوا برسول الله محمد، ولم يتبعوا رسالته؟!
# أَلَمْ يَأْنِ لـ «الملحدين» في آيات الله أن يفهموا ويعقلوا؟!
ثالثًا:
لقد ذهب بعض «أهل الكتاب» إلى رسول الله ليحكم بينهم في مسألة معينة، فقال الله تعالى لرسوله:
* «فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ»
وطبعا هم لم يذهبوا إلى الرسول لأنهم يؤمنون به وبوجوب التحاكم إلى شريعته، لذلك خيّره الله بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم، ولا يخشى حدوث أي ضرر منهم:
* «وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً»
* «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»
ثم يأتي السؤال الذي يحمل معاني التعجب كلها:
* «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ»
# عجيب أمرهم هذا، يطلبون تحكيم من لا يؤمنون به، وعندهم حكم الله في التوراة، والسبب أنهم كاذبون:
* «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ»؟!
لأنهم لم ولن يؤمنوا بما يحكم به الرسول:
* «وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ»
# ولكن «الملحدين» يقولون هم «مؤمنون» وسيدخلون الجنة!!
رابعًا:
ثم يتحدث السياق عن حقيقة «التوراة» يوم نزلت على «النَّبِيِّين»، ولقد حفظ الله منها على مر العصور ما يجعل حجته قائمة على «أهل الكتاب» إلى يوم الدين.
* «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ»
نعم لقد كانت «التَّوْرَاةَ» في أصلها «هُدًى وَنُورٌ»، لأنها «كتاب الله» الذي حكم به «النَّبِيُّونَ» ما بين عصر موسى إلى بعثة عيسى، عليهما السلام:
* «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ»
ونلاحظ أن الله وصف «النبيّين» بـ «الَّذِينَ أَسْلَمُوا».
وهل هناك «نبِيُّونَ» لم «يُسْلِموا»، ثم لماذا لم يقل الله «الَّذِينَ آمَنُوا»؟!
لأن القضية المثارة تتعلق بـ «أحكام الشريعة» وليس بـ «أصول الإيمان» التي قامت عليها هذه الأحكام، ومعرفة مَنْ الذي سيدخل الجنة ومن الذي سيدخل النار!!
وتعتبر هذه الآية من أقوى البراهين الدالة على أن «الإيمان» يسبق «الإسلام»، قولًا واحدًا، وأن معنى «الإسلام» هو الخضوع والتسليم لأحكام الشريعة الإلهية.
وفي هذا السياق أحب أن أشير إلى قوله تعالى في سياق بيان أن مقتضى «الإيمان» برسول الله محمد، هو «الإسلام» و«التسليم» لما يحكم به من «أحكام القرآن»:
* «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
ذلك لأن صدق ما في القلب من «إيمان» لا يتحقق إلا بـ «تسليم» الجوارح لـ «أحكام القرآن».
خامسًا:
ولقد جاء قوله تعالى:
«يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ»
للرد على «أهل الكتاب» الذين وصفوا الأنبياء، وفي مقدمتهم إبراهيم عليه السلام، باليهودية والنصرانية.
يقول الله تعالى في سورة آل عمران «الآية ٦٧»:
* «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ»
ويقول تعالى في سورة البقرة «الآية ١١١»:
* «وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»
ولقد أخذ الله على «النَّبِيين وَالرَّبَّانِيِّين وَالأَحْبَار» حفظ «التوراة» في صدورهم والعمل بأحكامها، فقال تعالى:
* «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ»
ولقد كان اليهود، في عصر التنزيل، يعلمون أنهم لم يحفظوا «التوراة»، ولكنهم كانوا يكابرون، فقال تعالى لهم:
* «فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي»
* «وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً»
ثم أتبع ذلك ببيان حكم من لم يلتزم بأحكام الشريعة الإلهية ويحكم بما أنزله الله، فقال تعالى:
* «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»
سادسًا:
أن «الكفر» العقدي يعني:
رفض القلب ملة الآخر، دون أن يترتب على ذلك أي «تخاصم اجتماعي»، أو «تقاتل طائفي».
في حوار بين الحبيب الجفري والأنبا مرقس، موجود على اليوتيوب، يسأل الجفري الأنبا مرقس:
# ألا تعتقد أني «كافر» ليس لي خلاص بسبب أني لا أومن بألوهية المسيح؟!
# الأنبا مرقس: أنا إذا لم أقل إنك «كافر» لم أكن مسيحيا!!
# الجفري: ولو أنا اعتقدت إن مفيش مشكلة، وقبلت من يقول إن التثليث معناه توحيد لم أكن مسلمًا.
# الأنبا مرقس: بالضبط بالضبط بالضبط
أقول:
إذن يجب أن تكون مسألة «الكفر» و«التكفير» واضحة تماما عند الناس، وأنها مسألة بدهية منطقية تؤكدها اللغة ويدعمها السياق القرآني.
ولذلك أتعجب:
لماذا «المداهنة»؟! ولحساب من؟! ولمصلحة من؟!
وكل صاحب ملة يُقر ويعترف أن من خالف ملته كافر به وبملته!!
سابعًا:
إننا إذا نظرنا إلى «الكفر» من منطلق ما يقابله من أصول الملة وهو «الإيمان»، يصبح من لم يحكم بما أنزل الله «كافرا».
وإذا نظرنا إلى «الكفر» من منطلق «ظلم النفس»، وأن «الكافر» ظالم لنفسه، يصبح من لم يحكم بما أنزل الله «ظالمًا».
* «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»
أما إذا نظرنا إلى «الكفر» من منطلق أن «الكافر» بكفره هذا يخرج عن أحكام الشريعة الإلهية، يصبح من لم يحكم بما أنزل الله «فاسقًا»:
* «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»
وهذه الصفات:
«الكفر – الظلم – الفسق»
لموصوف واحد هو: «من لم يحكم بما أنزل الله».
ثامنًا:
لم تعد التوراة، ولم يعد الإنجيل، كتاب هداية كما كان في عصر تنزيل كل منهما، وهذا ما بيّنه الله تعالى في سورة آل عمران «الآية ٣-٤»:
* «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»
إن قوله تعالى:
«مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»
بيان لسنة الله مع جميع الرسل، وما حملته كتبهم من الأصول الإيمانية العامة.
ولكن انظر وتدبر هذا القيد الذي ذكره الله بخصوص هداية «التوراة والإنجيل»:
* «وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ( مِنْ قَبْلُ ) هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ..»
لقد وضع الله هذا القيد «مِنْ قَبْلُ» حتى لا يظن ظان أنّ هُدى «التوراة والإنجيل» مستمرٌ بعد نزول القرآن.
وهذا ما أفاده قوله تعالى بعد ذلك:
* «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ»
لقد نزل الكتاب الخاتم مصدقًا ومهيمنًا على كل الكتب السابقة وناسخًا لها، لأنه الكتاب الإلهي الذي لم ولن ينسخه كتاب آخر إلى يوم الدين.
محمد السعيد مشتهري