إن أكثر أهل الأرض يعيشون أسرى تدينهم الوراثي الذي تتواصل حلقاته على مر العصور، ونادراً ما يقف إنسان وقفة مراجعة علمية لحقيقة تدينه، ومدى موافقته للحق الذي أمر الله اتباعه.
إن تبعية الطفل لوالديه، وارتباطه العاطفي والمعرفي بهما، تجعله أسير ملتهم، ويظل في هذا الأسر حتى يبلغ النكاح ويكتمل رشده، وهو يدافع عن تدينه الوراثي ويقاتل في سبيله.
فلماذا، بعد أن زوّد الله الإنسان بأدوات وآليات تجعله مسؤولًا مسؤولية كاملة عن تدينه، يتنازل عن هذه المسؤولية لآبائه ويجعلهم يتدبرون نيابة عنه، ويُفكّرون نيابة عنه، ويعقلون نيابة عنه؟!
أولًا:
إنها «فتنة الآبائية» التي تعمل في قلوب الناس عمل «الجين الوراثي»، والتي وقف نوح، عليه السلام، على خطورتها في انحراف الناس عن صراط ربهم المستقيم.
فطلب من ربه أن يهلك الكافرين جميعًا حتى لا يخرج من أصلابهم ذرية تعيش في بيئة فاجرة كافرة فتصبح مثلها، فقال تعالى:
* «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً»
* «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»
فانظر كيف عبّر نوح عن أثر البيئة على تدين الأبناء وكأنها اخترقت أرحام الأمهات وقامت بتربية الأبناء بداخلها، فيولدون وقد تشربت قلوبهم مذاهب آبائهم، فتدبر:
«وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً»
ثانيًا:
تعالوا نرى مشهدًا من قصة موسى وهارون، عليهما السلام، مع فرعون وملئه، فيقول الله تعالى:
* «وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»
* «رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ»
* «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ»
* «فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ»
* «قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»
وتعالوا نرى أثر انفعالات موسى النفسية على أقواله وتدخله فيما لا يحل له التدخل فيه:
١- «رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ»
٢- «وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ»
٣- «فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ»
ولذلك وقع في خطأ عقدي، فكيف يطلب موسى أن يكون إيمانهم متوقفًا على رؤيتهم «العذاب»، والله تعالى يقول:
* «… يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ …»؟!
ثالثًا:
واللافت للنظر أن الله استجاب لدعاء موسى وهارون:
* «قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا»
لماذا؟!
لأن الله تعالى يعلم أن ما قاله موسى سيكون فعلا مصير قومه، وهذا ما جعل موسى يستخدم «لام» العاقبة في قوله «لـ ِيُضِلُّواْ»، كالتي وردت في قوله تعالى:
«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِـ يَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً»
أي في المستقبل.
لقد جاء دعاء موسى على فرعون وملئه بعد يأسه من إيمانهم، تماما كما فعل نوح، وبعد أن علم من سيرتهم أنهم قد اختاروا «أسباب الضلال» والتي عاقبتها الغي والصد عن سبيل الله.
ثم ماذا قال الله تعالى بعد:
* «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا»؟!
قال تعالى:
* «فَاسْتَقِيمَا – وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ – لا يَعْلَمُونَ»
رابعًا:
ليس معنى أن ترى تأييد الله لك، وشعورك أن الله معك، أن يصيبك الغرور، وتقصر في التزامك بما فرضه الله عليه.
لقد جاء لفظ «فَاسْتَقِيمَا» في مكانه التربوي البليغ، ليكون رسالة إلى كل المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى.
وليس شرطًا أن ترى استجابة دعائك في الحال لأن الله يقول «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»!!
يجب أن نفرق بين «استجابة الدعاء» وتوقيت «وصول» هذه الاستجابة في الوقت الذي قدره الله لها، فتدبر:
* «وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً»
* «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»
ولذلك قال تعالى لموسى وهارون، عليهما السلام:
«وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ»
خامسًا:
لقد رجع موسى من ميقات ربه فوجد قومه «أشركوا بالله»:
«وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ»
وهذه الألواح التي ألقاها موسى كانت تحمل:
«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ»
لقد كانت «ملة الوحدانية»، وليس «أحكام الشريعة»، سبب غضب موسى وهارون، وقول موسى:
«رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ»
وكانت «ملة الوحدانية»، وليس «أحكام الشريعة»، سبب غضبه نوح وقوله:
* «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً»
والسؤال:
أين فعالية «ملة الوحدانية» في حياة المسلمين:
«الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
سادسًا:
وإذا كانت «البيئة» تعمل عمل «الجين الوراثي»:
فهل سيعذر الله تعالى الأبناء الذين اتبعوا ملة الكفر تقليدًا واتباعًا لآبائهم بغير علم؟!
تدبر قول الله تعالى:
* «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
إن الناس جميعًا مطالبون أن يقفوا على حقيقة تدينهم الوراثي، ذلك أن الفطرة الإيمانية لا تعصم الناس من الانحراف عن صراط ربهم المستقيم، دون تفعيل صاحبها لها.
فإذا غفل الإنسان عن تفعيلها، فلا عذر له يوم القيامة:
* «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»
ولن يعذر الإنسان بتدينه الوراثي، الذي فرضه أبواه عليه يوم ولد:
* «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ»
وإن من رحمة الله بالناس، أنه بعد أن حذرهم من الوقوع في أسر «فتنة الآبائية»، وهم مازالوا أحياء، أخبرهم أن باب التوبة مازال مفتوحًا، لعلهم يرجعون:
* «وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»
فهل ينجح المسلمون في استئصال «الجين الوراثي» الذي دمّر حياتهم الدينية، وجعلهم لا يستطيعون انقاذ أنفسهم فضلًا عن أولادهم، وأصبح يزعجهم من كلمة الحق التي تكشف حقيقة إيمانهم؟!
محمد السعيد مشتهري