لم يستطع المسلمون تحمل النتائج النفسية للصراع القائم في قلوبهم بين «ما يجب أن يكون»، الذي أمر الله به، و«ما هو كائن»، الذي أمر الله الناس به، فماذا كانت النتيجة؟!
لقد شقت «الفلسفة الماركسية» طريقها إلى قلوب المسلمين، عن طريق «التفسير المادي للقرآن»، الذي جعل «ما هو كائن» يلبس لباس «ما يجب أن يكون».
وبذلك أخرجت «الفلسفة الماركسية» المسلمين من حالات الإحباط والاكتئاب التي كانوا يعيشون بداخلها، وأصبحوا سعداء ينتظرون الفوز بالجنة!!
كما استطاعت «الفلسفة الماركسية» التي قامت على ما يسمى بـ «المادية الديالكتيكية»، أن تخترق منظومة «الفكر الإسلامي»، على أيدي من تربوا على مائدتها من المسلمين.
لقد ألبس المسلمون «الفلسفة الماركسية» لباس «القراءات القرآنية المعاصرة» لتحظى بقبول الذين اتخذوا إلههم هواهم.
وإن ما سبق نشره، تحت عنوان «مَا بَالُ أَقْوَامٍ … يقولون …»، من براهين كشفت عن علاقة «القراءات القرآنية المعاصرة» بـ «الفلسفة الماركسية»، كان تمهيدًا لهذا المنشور «7» والذي بعده «الأخير».
أولًا:
إن كلمة «ديالكتيك»، أصلها يوناني، وتنقسم إلى جزئين:
«ديا»: تبادل …. «لكتيك»: حوار
فهي تعني في أصلها «تبادل الآراء»
ولما كان لكل رأي برهانه الذي يحاول صاحبه إقناع الآخر به، يصبح عندنا آراء «متناقضة».
وتصبح كلمة «ديالكتيك» تعني «التناقض»، والإقرار بمشروعية «الصراع» في مختلف مناحي الحياة.
ثم تطور المعنى إلى أن ظهر «ماركس» وقال:
١- إن الاعتماد المتبادل بين الأشياء في الطبيعة له سمةٌ «ديالكتيكية» وليست «ميتافزيقية»، ذلك أن «ماركس» لا يؤمن بما وراء «المادة».
٢- إن التطور المادي الحتمي، في إطار صراع الأضداد، هو مصدر المعرفة الإنسانية، وليس الإله والنبوات.
٣- إن الذي يحدد مسار الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية، هو التطور المادي الحتمي، وليست العلاقة بين خالق ومخلوق.
ثانيًا:
لا يوجد عاقل ينكر وجود الملل والنحل العقدية الموجودة في العالم، وأن من حقها أن تمارس ما تعتقد، وأن ترد على شبهات الآخرين بالعلم والحجة والبرهان.
ولكن الغريب في أمر أصحاب «القراءات القرآنية المعاصرة»، قولهم:
١- إن الإنسانية الآن لا تحتاج إلى أية رسالة أو نبوة، بل هي قادرة على اكتشاف الوجود بنفسها بدون نبوات، وقادرة على التشريع بنفسها بدون رسالات!!
٢- إن الواقـع «المادي» هو القاعدة التي يقوم عليها فهم الناس لـ «الإسلام» وليس العكس، فـ «الإسلام» هو الذي يخضع للعصر، ولا يخضع العصر لـ «الإسلام»!!
٣- إن خير من أَوَّلَ آيات خلق البشر هو العالم الكبير «داروين»، الذي لم يعرف شيئًا عن القرآن؟!
والسؤال:
وما حاجة «داروين» للقرآن، بل وما حاجتكم أنتم أيها «الملحدون» إلى القرآن، طالما أن الإنسانية لا تحتاج إلى أية رسالة أو نبوة؟!
لماذا تقرؤون القرآن قراءة معاصرة، حتى أصبحتم نجومًا تسطع في السماوات والأرض، والناس الذين تخاطبوهم ليسوا في حاجة إليها ولا إليكم؟!
إذن فالقضية أكبر وأخطر مما يتصوره السطحيّون الذين يدافعون عن إخراج «الفلسفة الماركسية» من قبرها، وإلباسها لباس القراءات المعاصرة للقرآن.
ثالثًا:
عندما يقول أحدهم:
١- التنزيل الحكيم يضم بين دفتيه نبوة محمد كنبي، ورسالته كرسول.
٢- آيات النبوة:
التي تشرح نواميس الكون وقوانينه وقوانين التاريخ وأحداث الرسالات والنبوات «القصص» وتحتمل التصديق والتكذيب.
٣- آيات الرسالة:
التي تشرح الأحكام والأوامر والنواهي وتحتمل الطاعة والمعصية.
إذن فكيف نفهم هذا الكلام في ضوء قوله الذي استقاه من «الفلسفة الماركسية» التي اخترقت تدين المسلمين:
إن الإنسانية قادرة على التشريع لنفسها، وليست في حاجة إلى أية رسالة أو نبوة؟!
# ديالكتيك «تناقض»:
لقد نفى الشيء وأثبته في نفس الوقت، فنفى أن تكون الإنسانية في حاجة إلى «أية رسالة»، ثم أثبت أنها في حاجة إلى رسالة محمد كـ «رسول»!!
إذن فماذا نفعل في قوله، عند الحديث عن منهجه الفكري:
«إن العالم الموضوعي في التنزيل الحكيم يقوم على جدلية أساسية هي الصراع بين البناء والهلاك، والنصر دائماً للهلاك، ومن هذه الجدلية نستنتج الجدليات التالية في الطبيعة:
«جدلية التناقضات في الشيء الواحد: مخَلَّقة وغير مخَلَّقة»
أليس قولكم:
الإنسانية في حاجة إلى «رسالة»، وليست في حاجة إلى «رسالة» من «جدلية التناقضات في الشيء الواحد»؟!
أنتم أجهل من أن تخرجون «الفلسفة الماركسية» في صورة غير «عشوائية»!!
رابعًا:
يقول الله تعالى مخاطبا رسولهم حمدًا:
* «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
١- لا يوجد دليل في كتاب الله يُقسّم «الوحي» إلى قسمين:
– وحي النبوة: ويشمل الآيات المتشابهات
– وحي الرسالة: ويشمل الآيات المحكمات
فهذه بدعة من بدع «الفلسفة الماركسية» تساعدها على تحقيق أهدافها الإلحادية!!
٢- «الرسول» لا يكون «رسولا» إلى إذا كان «نبيًا» يُنَبّئه الله، وهو يُنبئ بما أنبأه الله به، فتدبر:
{أ} «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ..»
فعندما تأتي كلمة «بعث» قبل «النبيّين» فهذا معناه أنهم «رسل» يبلغون «كتاب الله» لأقوامهم، ولذلك نجد المقصود بيان كلمة «النبيّين» في موضع آخر:
* «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»
{ب} «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..»
أي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ..»
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ نَبِيٍّ..».
أي أن «النبي» مرسل من ربه.
{ج} وتدبر جيدا قوله تعالى:
* «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ – النَّبِيِّ الأُمِّيِّ – الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ – وَاتَّبِعُوهُ – لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
إذن فمقام «النَّبِيِّ الأُمِّيِّ» هو نفسه مقام الرسالة «وَرَسُولِهِ»، والمطلوب من الناس جميعًا:
«الإيمان بالرسول النبي الأمي، واتباعه: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
محمد السعيد مشتهري