نحو إسلام الرسول

(1143) 10/7/2018 «مَا بَالُ أَقْوَامٍ … يقولون …» {5}

هناك من يقولون إن عالمية الرسالة الإلهية الخاتمة تقتضي تفاعل نصوصها وأحكامها مع متطلبات ومستحدثات كل عصر، فإذا تطلب العصر أن تخرج المرأة عارية دون أن يرفض المجتمع ذلك، أو أن يستحدث المجتمع زواجًا بين الرجال وآخر بين النساء، فهذه المتطلبات والمستحدثات تقتضيها عالمية الرسالة!!

والحقيقة أن الفرق كبير بين:

من ينظر إلى عالمية الرسالة من منظار «التقوى».

ومن ينظر إلى عالمية الرسالة من منظار «الإلحاد».

وهذا ما جاء السياق القرآني ببيانه عند الحديث عن «التقوى».

أولًا:

تدور مادة «التقوى» في السياق القرآني حول محور:

«ستر النفس، وحفظها مما يؤذيها ويضرها، وتخاف منه».

ويتسع مفهوم «التقوى» ليشمل الإنسان، والمجتمع، وجميع مناحي الحياة، وهو ينطلق من قاعدة:

«الكفر بالشرك – والإيمان بالوحدانية – والعمل بما أمر الله به في كتابه الخاتم – والامتناع عما نهى عنه».

وعلى هذا الأساس دعا الله الناس جميعًا إلى أن «يتقوا ربهم:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ»

ودعا المؤمنين جميعًا، وهم من الناس، إلى أن «يتقوا الله»:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ»

ودعا النبي محمد، وهو من المؤمنين، أن «يتقي الله»:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ»

فلماذا عندما يأمر الله الناس بالتقوى يقول لهم: «اتَّقُوا رَبَّكُمْ»

وعندما يخاطب المؤمنين يقول لهم: «اتَّقُوا الله»؟!

وذلك على مستوى جميع آيات التنزيل الحكيم، باستثناء آية واحدة خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى:

* «قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»؟!

فلماذا خالف السياق القاعدة، من كون الأمر بالتقوى للمؤمنين يضاف إلى الله «اتَّقُوا الله»، وليس إلى لفظ الربوبية «اتَّقُوا رَبَّكُمْ»؟!

والجواب:

لأن سياق الآية يتعلق بأحداث تعرض لها المؤمنون، وهذا يُفهم من السياق، فجاء التعبير بالربوبية «اتَّقُوا رَبَّكُمْ» لإشعارهم بمعية الله ورعايته سبحانه لهم، وبالعلاقة الوثيقة التي بينهم وبين ربهم.

إنهم أصلا مؤمنون متّقون، من قبل نزول الآية، وأمر الله لهم بالتقوى «اتَّقُوا رَبَّكُمْ» جاء من باب تذكيرهم بها، وحثهم على الثبات عليها، في مثل هذه الأحداث التي اقتضت أن يقول الله لهم:

* «وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»

ثانيًا:

نعود إلى السؤال السابق الإشارة إليه:

لماذا عندما يأمر الله الناس بالتقوى يقول لهم: «اتَّقُوا رَبَّكُمْ»

وعندما يخاطب المؤمنين يقول لهم: «اتَّقُوا الله»؟!

تعالوا نضرب مثالا بقوله تعالى:

* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً…»

١- إن «الناس»، الذين أمرهم الله أن «يتقوا ربهم»، هم الذين تلقوا دعوة الإسلام ببعثة رسول الله محمد، من جميع الملل والنحل التي كانت موجودة في عصر التنزيل.

وتأتي «التقوى» في هذا السياق بمعنى حفظ النفس مما يُغضب الله، وفي مقدمة ذلك تنزيه الله عن الشركاء، والإيمان بآيته القرآنية الدالة على صدق «نبوة» رسوله محمد.

ولذلك بدأ الله بيان أن من دلائل الوحدانية آية خلق الناس من نفس واحدة، الأمر الذي يقتضي تقواه حق التقوى.

٢- أما «الذين آمنوا» منهم برسول الله واتبعوا رسالته، فهم الذين أمرهم الله بعدها بـ «تقوى الله»:

* «… وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً»

فأعيد لفظ «التقوى» ليختص بالمؤمنين الذين دخلوا في «دين الإسلام»، وسَلّموا لأحكام القرآن تسليما، ومنها ما سيرد ذكره مباشرة بعد هذه الآية.

وعندما يأمر الله المؤمنين بـ «التقوى» فذلك من باب تذكيرهم بها وتثبيتهم عليها، وإدخال المهابة في قلوبهم، لأن هذا ما يقتضيه مقام التشريع، وليس من باب إنشائها في قلوبهم، كما هو الحال بالنسبة للناس.

ثالثًا:

والخطاب بـ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» يشمل أتباع جميع الملل والنحل الذين لم يؤمنوا برسول الله محمد، ولم يتبعوا رسالته، الذين كانوا في عصر التنزيل، والذين جاؤوا بعده، إلى يوم الدين.

وهؤلاء هم الذين خاطبهم ويخاطبهم الله تعالى بدلائل الوحدانية، ويخوفهم من عذابه، ومن علامات ومشاهد يوم القيامة:

* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ»

ويدعوهم إلى الإيمان بـ «الآية العقلية القرآنية» الدالة على صدق «نبوة» رسوله محمد، بداية بقوله تعالى:

* «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»

* «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ»

# وإن من مقتضيات ما سبق:

* «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»

ثم جاء بالبرهان على «كفر» كل من لم يؤمن من «الناس» برسول الله محمد وبرسالته، فقال تعالى بعدها:

* «وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»

# ولأنها «آية إلهية» يستحيل أن يأتي بمثلها إنس ولا جان، قال تعالى بعدها:

* «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»

تدبر: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ».

رابعًا:

عندما نتدبر السياق القرآني نجد أن المضاف إلى التقوى:

١- «اتَّقُوا اللَّهَ» – «اتَّقُوا رَبَّكُمْ»

أي اجعلوا بينكم وبين ما تخشونه من الله ربكم وقاية تقيكم من ذلك.

٢- «فَاتَّقُوا النَّارَ»

أي اجعلوا بينكم وبين النار وعذابها وقاية، وهي التزامكم بما أمر الله به ونهى عنه.

٣- اليوم الآخر:

* «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»

وإنما يُتقى ما يحدث في هذا اليوم بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.

وهو نفس المعنى في طلب التقوى من السيئات والفتن:

٣- السيئات:

* «وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»

٤- الفتنة

* «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً..»

خامسًا:

إن الهدف من إلقاء بعض الضوء على موضوع «التقوى»، وأنه المحور الأساس الذي يدور حول إيمان المرء وإسلامه، هو:

١- بيان بعض ثماره:

# الثمرة الأولى:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»

إنها ثمرة «الفرقان»: «يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً»

التي يريد «الملحدون» إفسادها بالإلحاد في معناها.

# الثمرة الثانية:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»

إنها ثمرة «النور»: «وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ»

التي يريد «الكافرون» أن يطفئوها بإلحادهم في أحكام القرآن:

* «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ»

* «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»

٢- بيان أن كلمة «الناس»، في سياق الأمر بتقوى الله، «اتَّقُوا رَبَّكُمْ»، والاهتداء بهدي القرآن، «هُدًى لِلنَّاسِ»، تعني «الكافرين»، الذين لم يدخلوا «دين الإسلام» بعد.

ولقد نجحت مدرسة «التفسير المادي للوجود»، التي سأخصص لها منشورًا مستقلًا، في أن تجعل الناس مؤمنون مهتدون بهدي القرآن، وبذلك يصبح جزء من التنزيل الحكيم يخص «الناس»، وجزء يخص «المؤمنين»!!

وبناء على ما سبق بيانه في موضوع «التقوى» أقول:

إن كل من آمن بأن:

«الكتاب والقرآن والفرقان والنور والذكر»

ليست صفات للتنزيل الحكيم، وإنما هي أجزاء منفصلة لكل جزء طبيعته المستقلة وخصائصه التي تميزه عن غيره.

فهو إنسان جاهل منافق في الدرك الأسفل من النار.

«قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى